لَكِنَّ (مُخَالَفَتَهُمْ) أَيْ الْمُجْمِعِينَ لِلنَّصِّ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ (تَتَضَمَّنُ نَاسِخًا) لَهُ وَهُوَ مُسْتَنَدُ إجْمَاعِهِمْ.

(وَيَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ نَسْخُ بَعْضِ الْقُرْآنِ تِلَاوَةً وَحُكْمًا أَوْ أَحَدَهُمَا فَقَطْ) وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ بَعْضِهِ كَكُلِّهِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ فِي الْبَعْضِ نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَالْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فَإِذَا قُدِّرَ انْتِفَاءُ أَحَدِهِمَا لَزِمَ انْتِفَاءُ الْآخَرِ قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا رُوعِيَ وَصْفُ الدَّلَالَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يُرَاعَ فِيهِ ذَلِكَ فَإِنَّ بَقَاءَ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ لَيْسَ يُوصَفُ كَوْنُهُ مَدْلُولًا لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَدْلُولٌ لِمَا دَلَّ عَلَى بَقَائِهِ وَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ لَيْسَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَدْلُولًا، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ وَضْعِيَّةٌ لَا تَزُولُ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ النَّاسِخُ الْعَمَلَ بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ إلَخْ) مُتَعَلِّقٌ بِمُخَالَفَةَ أَيْ فِي حُكْمٍ دَلَّ النَّصُّ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مُطْلَقُ الدَّلِيلِ لَا مَا قَابَلَ الظَّاهِرَ (قَوْلُهُ: وَهُوَ مُسْتَنَدُ إجْمَاعِهِمْ) فَهُوَ النَّاسِخُ وَفِيهِ أَنَّهُ يَأْتِي لَهُ جَعْلُ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِذَلِكَ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْقِيَاسِ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ ارْتِبَاطًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ كَأَنَّهُ مَعَهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فَكَأَنَّ النَّسْخَ بِهِ.

(قَوْلُهُ: تِلَاوَةً وَحُكْمًا) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنْ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ وَيَجُوزُ نَسْخُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِهِ، وَأُورِدَ أَنَّ التِّلَاوَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ فَلَا يَحْسُنُ التَّقَابُلُ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ الْخَاصُّ الْمَدْلُولُ لَهُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْحُكْمُ هُوَ التَّعَبُّدُ بِالتِّلَاوَةِ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: أَوْ أَحَدَهُمَا فَقَطْ) أَيْ الْحُكْمِ أَوْ التِّلَاوَةِ لَا يُقَالُ: نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَقَطْ لَا يَتَنَاوَلُهُ التَّعْرِيفُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ نَسْخَ حُكْمٍ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالتِّلَاوَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ الْمَدْلُولِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ بَعْضِهِ) أَيْ لَا تِلَاوَةً، وَلَا حُكْمًا، وَلَا أَحَدَهُمَا فَقَطْ (قَوْلُهُ: كَكُلِّهِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ نَسْخُ كُلِّهِ شَرْعًا، وَإِلَّا فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا لِمَا سَيَأْتِي مِنْ جَوَازِ نَسْخِ كُلِّ الشَّرِيعَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَظَاهِرٌ أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ جَمِيعِ السُّنَّةِ كَحُكْمِ نَسْخِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ اهـ. زَكَرِيَّا.

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ لِمَا سَيَأْتِي لِقَوْلِ الشَّارِحِ عَقِبَ الْمُصَنِّفُ: وَإِنَّ كُلَّ شَرْعِيٍّ يَقْبَلُ النَّسْخَ مَا نَصُّهُ فَيَجُوزُ نَسْخُ كُلِّ الْأَحْكَامِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحُكْمَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ) وَهُوَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَدْلُولًا لَا يَنْفُك عَنْ الدَّلِيلِ وَبِالْعَكْسِ (قَوْلُهُ: لَزِمَ انْتِفَاءُ الْآخَرِ) ظَاهِرُهُ عَقْلًا مَعَ أَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ الْمَنْعُ شَرْعًا فَإِنْ أَرَادَ شَرْعًا فَغَيْرُ لَازِمٍ (قَوْلُهُ: وَصْفُ الدَّلَالَةِ) إذْ الْمَدْلُولُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَدْلُولًا لَا يُوجَدُ بِدُونِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ قَالَ سم وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا انْتِفَاءُ حَقِيقَةٍ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّفْظِ لَيْسَ مَعْنَاهُ انْعِدَامَهُ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ بَاقٍ، وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُ أَحْكَامُ التِّلَاوَةِ كَحُرْمَةِ قِرَاءَتِهِ عَلَى الْجُنُبِ وَمَسِّهِ عَلَى الْمُحْدِثِ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَاهُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ لَيْسَ مَشْرُوطًا بِبَقَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مَعَ نَسْخِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَاهُ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ لَيْسَ مَعْنَاهُ انْعِدَامَهُ فَإِنَّهُ مَعْنَى ثَابِتٌ مَفْهُومٌ مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَنَّهُ إذَا رُوعِيَ وَصْفُهُ الدَّلَالَةَ لَزِمَ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَإِنَّ انْتِفَاءَ أَحَدِهِمَا بِمَعْنَى نَسْخِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْآخَرِ فَإِنَّهُ إذَا نُسِخَ اللَّفْظُ فَدَلَالَتُهُ بَاقِيَةٌ عَلَى مَدْلُولِهَا

(قَوْلُهُ: لِمَا دَلَّ عَلَى بَقَائِهِ) أَيْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ كَالْإِجْمَاعِ «وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ مَاعِزٍ» وَغَيْرِهِ الدَّالَّيْنِ عَلَى حُكْمِ الرَّجْمِ فَإِنْ قُلْت قَوْله تَعَالَى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: 42] يَمْنَعُ النَّسْخَ فِي الْقُرْآنِ قُلْنَا الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ إبْطَالٌ إنَّمَا هُوَ رَفْعُ تَعَلُّقِ حُكْمٍ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لِفَائِدَةٍ كَتَخْفِيفٍ أَوْ ابْتِلَاءٍ لِلْعَزْمِ أَوْ وُجُوبِ اعْتِقَادٍ أَوْ ثَوَابِ تِلَاوَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَقَدْ حَرَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ الْبُطْلَانَ بَلْ زَوَالَ مَا يُظَنُّ مِنْ التَّعَلُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا النَّاسِخُ لَكَانَ فِي عُقُولِنَا ظَنُّ التَّعَلُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَبِالنَّسْخِ زَالَ ذَلِكَ الظَّنُّ اهـ.

وَبِمَا قَرَّرْته عُرِفَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ مَا فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ مَعَ رَفْعِهِ فِي قَوْلِهِمْ الْآتِي يَجُوزُ نَسْخُ الْفِعْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ فَائِدَةِ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ ظُهُورِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْعَقْلِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَمَمْنُوعٌ كَمَا عُرِفَ اهـ. زَكَرِيَّا.

(قَوْلُهُ: فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ وَضْعِيَّةٌ) فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي الدَّلَالَةِ الذَّاتِيَّةِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015