عَلَى أَنَّ الْمُوَافَقَةَ مَفْهُومٌ لَا مَنْطُوقٌ وَلَا قِيَاسِيٌّ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ صَدْرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ تَارَةً مَفْهُومًا وَأُخْرَى قِيَاسِيًّا كَالْبَيْضَاوِيِّ فَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مَسْكُوتٌ، وَالْقِيَاسُ إلْحَاقُ مَسْكُوتٍ بِمَنْطُوقٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَدْ يُقَالُ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مَدْلُولٌ لِلَّفْظِ وَالْمَقِيسَ غَيْرُ مَدْلُولٍ لَهُ
(وَإِنْ خَالَفَ حُكْمُ الْمَفْهُومِ الْحُكْمَ الْمَنْطُوقَ بِهِ فَمُخَالَفَةٌ) وَيُسَمَّى مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ أَيْضًا كَمَا سَيَأْتِي التَّعْبِيرُ بِهِ فِي مَبْحَثِ الْعَامِّ (وَشَرْطُهُ) لِيَتَحَقَّقَ (أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ تُرِكَ لِخَوْفٍ) فِي ذِكْرِهِ بِالْمُوَافَقَةِ كَقَوْلِ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لِعَبْدِهِ بِحُضُورِ الْمُسْلِمِينَ تَصَدَّقْ بِهَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُرِيدُ غَيْرَهُمْ وَتَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُتَّهَمَ بِالنِّفَاقِ (وَنَحْوِهِ) أَيْ نَحْوِ الْخَوْفِ كَالْجَهْلِ بِحُكْمِ الْمَسْكُوتِ كَقَوْلِك فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ وَأَنْتَ تَجْهَلُ حُكْمَ الْمَعْلُوفَةِ (وَ) أَنْ (لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ خَرَجَ لِلْغَالِبِ) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَدِلَّةَ النَّصِّ (قَوْلُهُ: كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ إلَخْ) رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ مَفْهُومٌ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمُوَافِقَةٌ ظَاهِرَهُ فَالْمَفْهُومُ مِنْ الْمُوَافِقِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُوَافَقَةٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَحُكْمُهُ الْمُوَافِقُ مُوَافَقَةً فَعَلَى الْأَوَّلِ الظَّاهِرُ يَكُونُ مَفْهُومًا لَا قِيَاسًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ قِيَاسًا
(قَوْلُهُ: صَدَّرَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْمَفْهُومُ مَا دَلَّ إلَخْ
(قَوْلُهُ: كَالْبَيْضَاوِيِّ) ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمُوَافَقَةَ فِي مَبْحَثِ اللُّغَاتِ مَفْهُومًا وَفِي كِتَابِ الْقِيَاسِ قِيَاسًا (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مَسْكُوتٌ) فِيهِ أَنَّ الْمَفْهُومَ إمَّا الْحُكْمُ وَإِمَّا هُوَ مَعَ مَحَلِّهِ وَالْمَسْكُوتُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ مَحَلُّ الْحُكْمِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ حَمْلُ الْمُبَايِنِ وَعَلَى الثَّانِي حَمْلُ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسْكُوتُ بِالْمَعْنَى الْوَصْفِيِّ لَا الِاسْمِيِّ أَوْ يُرَادُ بِالْمَفْهُومِ مَحَلُّ الْحُكْمِ فَصِحَّةُ الْحَمْلِ حِينَئِذٍ ظَاهِرَةٌ (قَوْلُهُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ) أَيْ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ لِلْمَفْهُومِ جِهَتَيْنِ هُوَ بِاعْتِبَارِ إحْدَاهُمَا مُسْتَنِدٌ إلَى اللَّفْظِ فَكَانَ مَفْهُومًا وَبِاعْتِبَارِ الْأُخْرَى قِيَاسٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَأَشَارَ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ وَتَعَقَّبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبِرْمَاوِيُّ بِأَنَّ لِلْخِلَافِ فَوَائِدَ مِنْهَا أَنَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ جَازَ النَّسْخُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا اهـ. زَكَرِيَّا
وَتَعَقَّبَهُ سم بِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي الْمَتْنِ تَصْحِيحُ النُّسَخِ بِالْقِيَاسِ وَجَوَازُ النَّسْخِ بِالْفَحْوَى وَحِكَايَةُ الشَّارِحِ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْجَوَازِ فِيهَا عَنْ الْإِمَامِ الرَّازِيّ وَالْآمِدِيِّ وَقَوْلًا بِالْمَنْعِ فِيهَا عَنْ حِكَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَهَذِهِ الْفَائِدَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ضَعِيفٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ
(قَوْلُهُ: وَالْمَقِيسُ غَيْرُ مَدْلُولٍ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ حُكْمَ الْأَصْلِ الْفَرْعُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْمَفْهُومُ قِيَاسًا لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ وَغَيْرَ مَدْلُولٍ لَهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ صَرَاحَةً بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ قَرِينَةٍ أَوْ عِلَّةٍ فَلَا مَانِعَ حِينَئِذٍ مِنْ كَوْنِ الْمَفْهُومِ قِيَاسًا
(قَوْلُهُ: حُكْمُ الْمَفْهُومِ) الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَفْهُومِ الْمَحَلَّ وَالْمُنَاسِبَ لِقَوْلِهِ: الْحُكْمَ الْمَنْطُوقَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحُكْمَ، وَقَدْ يُجَابُ بِجَعْلِ الْإِضَافَةِ بَيَانِيَّةً (قَوْلُهُ: فَمُخَالَفَةٌ) أَيْ يُسَمَّى بِذَلِكَ اصْطِلَاحًا كَمَا أَشَارَ لَهُ الشَّارِحُ فَلَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ نُظِرَ فِيهِ لِلْمَعْنَى (قَوْلُهُ: لِيَتَحَقَّقَ) أَيْ بِحَيْثُ إذَا انْتَفَى الشَّرْطُ انْتَفَى الْمَفْهُومُ مِنْ أَصْلِهِ وَلَيْسَ الشَّرْطُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا (قَوْلُهُ: لِخَوْفٍ) أَيْ لِخَوْفٍ مَحْذُورٍ بِسَبَبِ ذِكْرِ الْمَسْكُوتِ بِطَرِيقِ مُوَافَقَتِهِ لِلْمَنْطُوقِ بِأَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ فَفِي لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِكْرِهِ وَهَذَا الشَّرْطُ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ مَثَّلَ لَهُ الشَّارِحُ بِكَلَامِ الْخَلْقِ
(قَوْلُهُ: كَقَوْلِ قَرِيبِ الْعَهْدِ) الْعَهْدُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاتِّصَافِ مَجَازًا عَنْ الْعِلْمِ اللَّازِمِ لِلِاتِّصَافِ اهـ. نَاصِرٌ
(قَوْلُهُ: وَتَرَكَهُ) أَيْ قَوْلُهُ وَغَيْرِهِمْ (قَوْلُهُ: كَالْجَهْلِ) أَيْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رَمَزَ الشَّارِحُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ كَقَوْلِك إلَخْ (قَوْلُهُ: خَرَجَ لِلْغَالِبِ) قَالَ النَّاصِرُ: هَاهُنَا مَقَامَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَيْدَ خَرَجَ لِلْغَالِبِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْغَالِبِ.
وَالثَّانِي: هُوَ الَّذِي خَالَفَ الْإِمَامُ فِي اشْتِرَاطِ نَفْيِهِ بِدَلِيلِ مَا سَيَجِيءُ اهـ.
أَرَادَ بِهِ قَوْلَ الشَّارِحِ أَنَّ الْقَيْدَ لِمُوَافَقَةِ الْغَالِبِ، وَهَذَانِ الْمَقَامَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ تَعْبِيرِ