لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ كَذَلِكَ بِخَطِّ السُّوَرِ فِي مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ مَعَ مُبَالَغَتِهِمْ فِي أَنْ لَا يُكْتَبَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى النَّقْطُ وَالشَّكْلُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَغَيْرُهُ لَيْسَتْ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْفَاتِحَةِ لِابْتِدَاءِ الْكِتَابِ عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي كُتُبِهِ وَمِنْهُ سُنَّ لَنَا ابْتِدَاءُ الْكُتُبِ بِهَا وَفِي غَيْرِهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَهِيَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ النَّمْلِ إجْمَاعًا وَلَيْسَتْ مِنْهُ أَوَّلُ بَرَاءَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا قَطْعِيَّةٌ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ، وَالظَّنُّ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ التَّوَاتُرِ بَلْ يَكْفِي فِيهِ الْآحَادُ إلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِمَا سَيَأْتِي مِنْ نَفْيِ الْقُرْآنِيَّةِ عَمَّا نُقِلَ آحَادًا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ تَوْصِيَةَ الصَّحَابَةِ وَمُبَالَغَتَهُمْ فِي تَجْدِيدِ الْمُصْحَفِ عَمَّا لَيْسَ بِقُرْآنِ عَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ مُنَادِيَةً أَنَّ نَقْلَ التَّسْمِيَةِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى قُرْآنِيَّتِهَا.
وَقَدْ عَارَضَ هَذِهِ عَادَةٌ مِثْلُهَا وَهِيَ أَنَّهَا فِي الشَّرِيعَةِ شِعَارُ الْفَصْلِ وَعِنْوَانُ التَّبَرُّكِ بِالِابْتِدَاءِ بِهَا فَلِمُعَارَضَةِ الْعَادَتَيْنِ فِي كِلَا الطَّرَفَيْنِ لَمْ يُكَفِّرْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْأُخْرَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: إنَّ الشُّبْهَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ دَلِيلِ كُلِّ طَائِفَةٍ قَوِيَّةٌ فِي حَقِّ الْأُخْرَى.
وَأَجَابَ سم بِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْهُ لِقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ فَالْحَقُّ مَا أَفَادَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّ نَقْلَ الْبَسْمَلَةِ بِالتَّوَاتُرِ لَكِنْ لَا عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّهَا قُرْآنٌ أَوْ غَيْرُ قُرْآنٍ كَيْفَ وَالْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلَى افْتِتَاحِ السُّورَةِ بِالْبَسْمَلَةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّارِحِ؛ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ إلَخْ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا قُرْآنِيَّتهَا لِاحْتِمَالِ الْفَصْلِ الْآتِي، وَأَمَّا تَعَيُّنُ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَاتِحَةِ وَبُطْلَانُ صَلَاةِ التَّالِي بِتَعَمُّدِ تَرْكِهَا عِنْدَنَا فِيهَا فَلِمَعْنَى يَخُصُّ الصَّلَاةَ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ إلَخْ) دَلِيلٌ اقْتِرَانِيٌّ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ذَكَرَ الشَّارِحُ صُغْرَاهُ وَطَوَى الْكُبْرَى وَذَكَرَ دَلِيلَهَا تَقْرِيرُهُ هَكَذَا الْبَسْمَلَةُ مَكْتُوبَةٌ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ بِخَطِّ السُّوَرِ فِي مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ قُرْآنٌ فَالْبَسْمَلَةُ قُرْآنٌ أَمَّا الصُّغْرَى فَبَدِيهِيَّةٌ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَقَدْ ذَكَرَ دَلِيلَهَا بِقَوْلِهِ: إنَّ الصَّحَابَةَ بَالَغُوا إلَخْ.
(قَوْلُهُ: بِخَطِّ السُّوَرِ) دَفَعَ بِهَذَا مَا يُقَالُ: إنَّ أَسْمَاءَ السُّوَرِ كَذَلِكَ مَكْتُوبَةٌ؛ لِأَنَّ كِتَابَتَهَا بِغَيْرِ خَطِّ الْمُصْحَفِ بَلْ مُتَمَيِّزَةٌ بِخَطٍّ آخَرَ وَمِدَادٍ آخَرِ.
(قَوْلُهُ: فِي مَصَاحِفِ الصَّحَابَةِ) نُسِبَ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا نُسِبَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي جَمْعِهِ.
(قَوْلُهُ: أَنْ لَا يَكْتُبَ فِيهَا لَيْسَ مِنْهُ) أَيْ بِخَطِّ السُّوَرِ فَحُذِفَ الْقَيْدُ مِنْ هَذَا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ فَلَا يَرِدُ أَسْمَاءَ السُّوَرِ.
(قَوْلُهُ: حَتَّى النُّقَطُ وَالشَّكْلُ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَا لَيْسَ مِنْهُ وَبِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى مَا الْمَجْرُورَةُ فِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ أَيْ انْتَهَتْ مُبَالَغَتُهُمْ إلَى عَدَمِ كِتَابَةِ ذَلِكَ وَعَدَمِ كِتَابَةِ آمِينَ وَالِاسْتِعَاذَةِ أَيْضًا مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ سُنَنِ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ إنَّ تَرَاجِمَ السُّوَرِ وَكَذَا النَّقْطُ وَالشَّكْلُ حَدَثَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَمِمَّا يَدُلُّ لَنَا أَيْضًا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ أَوْلَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» .
(قَوْلُهُ: وَقَالَ الْقَاضِي) هُوَ مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ فَاسْتِدْلَالُهُ لِتَقْوِيَةِ مَذْهَبِهِ.
(قَوْلُهُ: لَيْسَتْ مِنْهُ فِي ذَلِكَ) أَيْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ غَيْرَ بَرَاءَةٍ.
(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْفَاتِحَةِ إلَخْ) مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ كِتَابَتِهَا فِي الْفَاتِحَةِ وَفِي غَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرَ لَمَا سَاغَ كِتَابَتَهَا بِخَطِّ السُّوَرِ لِمُبَالَغَةِ الصَّحَابَةِ فِي تَجْرِيدِ الْقُرْآنِ عَمَّا عَدَاهُ وَلَكُتِبَتْ أَوَّلُ بَرَاءَةٍ وَمَا ذَكَرَ فِي الْخَبَرِ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ نَفَى كَوْنَهَا قُرْآنًا بَلْ قَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ أَثْبَتَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي نُزُولِهَا قُرْآنًا فَمُحْتَمَلٌ يَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِالْقَاطِعِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كِتَابَتِهَا بِخَطِّ السُّوَرِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَجْرِيدِ الْقُرْآنِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا تَقَرَّرَ اهـ زَكَرِيَّا وَيُقَوِّيهِ مَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ