يَحْصُلُ بِكَثِيرِ الْمَأْكُولِ وَقَلِيلِهِ، فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةِ مَاءٍ» وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِنِصْفِ اللَّيْلِ. .
(وَ) الثَّالِثُ (تَرْكُ الْهَجْرِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ: تَرْكُ الْهِجْرَانِ (مِنْ الْكَلَامِ) جَمِيعَ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرُوهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» أَمَّا الْهُجْرُ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الِاسْمُ مِنْ الْإِهْجَارِ وَهُوَ الْإِفْحَاشُ فِي النُّطْقِ فَلَيْسَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ إذْ كَلَامُهُ فِيمَا هُوَ سُنَّةٌ، وَتَرْكُ فُحْشِ الْكَلَامِ مِنْ عَيْبَةٍ وَغَيْرِهَا وَاجِبٌ. وَبَعْضُهُمْ ضَبَطَ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِالضَّمِّ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ كَمَا اُعْتُرِضَ عَلَى الْمِنْهَاجِ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ: وَلْيَصُنْ لِسَانَهُ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ بِأَنَّ صَوْنَ اللِّسَانِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلصَّائِمِ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ فَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِارْتِكَابِ ذَلِكَ بِخِلَافِ ارْتِكَابِ مَا يَجِبُ اجْتِنَابُهُ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ كَالِاسْتِقَاءَةِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَحَدِيثُ «خَمْسٌ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ الْغَيْبَةُ وَالنَّمِيمَةُ» إلَى آخِرِهِ ضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَالْمُرَادُ بُطْلَانُ الثَّوَابِ لَا الصَّوْمِ، قَالَ: وَمِنْ هُنَا حَسُنَ عَدُّ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ مِنْ آدَابِ الصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا مُطْلَقًا. .
وَيُسَنُّ تَرْكُ شَهْوَةٍ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ كَشَمِّ الرَّيَاحِينِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّرَفُّهِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ حِكْمَةَ الصَّوْمِ، وَتَرْكُ نَحْوِ حَجْمٍ كَفَصْدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُهُ، وَتَرْكُ ذَوْقِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ خَوْفَ وُصُولِهِ حَلْقَهُ، وَتَرْكُ عَلْكٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوُجُودِهِ مُؤَخَّرًا. اهـ. م د. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَنِّ التَّأْخِيرِ كَوْنُ السُّحُورِ نَفْسِهِ سُنَّةً بَلْ يَصْدُقُ بِالْإِبَاحَةِ.
قَوْلُهُ: (بِكَثِيرِ الْمَأْكُولِ وَقَلِيلِهِ) أَيْ وَكَثِيرِ الْمَشْرُوبِ وَقَلِيلِهِ أَخْذًا مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: (وَلَوْ بِجُرْعَةِ مَاءٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: الْجُرْعَةُ مِنْ الْمَاءِ كَاللُّقْمَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَهُوَ مَا يُجْرَعُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالْجَمْعُ جُرَعٌ مِثْلَ غَرْفَةٍ وَغُرَفٍ.
قَوْلُهُ: (تَرْكُ الْهَجْرِ) أَيْ تَرْكُ هَجْرِ النَّاسِ مِنْ الْكَلَامِ بِأَنْ يُكَلِّمَهُمْ، وَالْهَجْرُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ هَجَرَ كَضَرْبِ وَمَعْنَاهُ تَرْكُ الْكَلَامِ. وَقَدْ أَضَافَ لَهُ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ " تَرْكُ "، وَنَفْيُ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَتَفْسِيرُ الْهَجْرِ بِالتَّرْكِ لَا يُنَافِي تَفْسِيرَهُ بِالْهِجْرَانِ الَّذِي هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْكَلَامِ تَرْكُهُ فَصَارَ مَعْنَاهُ التَّكَلُّمَ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى فَتْحِ الْهَاءِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَيَكُونُ اسْمَ مَصْدَرٍ لِأَهْجَرَ بِمَعْنَى أَفَحَشَ، وَالْمَعْنَى: يُسَنُّ تَرْكُ الْكَلَامِ الْفَاحِشِ. وَعِبَارَةُ م د: قَوْلُهُ " تَرْكُ الْهِجْرَانِ " لَوْ حَذَفَ الشَّارِحُ لَفْظَ " تَرْكُ " الدَّاخِلَةِ عَلَى الْهِجْرَانِ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا، وَالْمَعْنَى تَرْكُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ؛ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ الْكَلَامُ وَالِامْتِنَاعُ تَفْسِيرٌ لِلْهِجْرَانِ؛ وَالْمَعْنَى عَلَى إثْبَاتِ التَّرْكِ تَرْكُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ بِأَنْ يَسْكُتَ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ التَّكَلُّمُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ الِاسْمُ) أَيْ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ الْإِهْجَارِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ أَهْجَرَ أَيْ أَفْحَشَ.
قَوْلُهُ: (فَلَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُرَادُهُ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَبَّادِيُّ: بَلْ هُوَ أَقْعَدُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْمِنْهَاجِ، وَالِاعْتِرَاضُ مَدْفُوعٌ بِمَا سَيَذْكُرُهُ. اهـ. ق ل. وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمَنْهَجِ: وَيُسَنُّ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ تَرْكُ فُحْشٍ كَكَذِبٍ وَغِيبَةٍ، لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» اهـ، أَيْ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي تَرْكِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، أَيْ فِي صِيَامِهِ. فَحَذَفَ الْجَارَّ مِنْ " أَنْ يَدَعَ " وَالتَّقْدِيرُ فِي أَنْ يَدَعَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ أَوْ مَجَازٌ عَنْ عَدَمِ نَظَرِهِ تَعَالَى لَهُ نَظَرَ الْعِنَايَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْقَبُولِ وَالتَّفَضُّلِ بِالثَّوَابِ، أَوْ لَا يَطْلُبُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَدَعَ إلَخْ. فَأَطْلَقَ الْحَاجَةَ وَأَرَادَ الطَّلَبَ مَجَازًا، عِلَاقَتُهُ اللُّزُومُ.
قَوْلُهُ: (وَبَعْضُهُمْ) هُوَ ابْنُ قَاسِمٍ الْغَزِّيُّ، فَإِنَّهُ شَرَحَ الْمَتْنَ وَالْمِنْهَاجَ أَيْضًا. قَوْلُهُ: (وَاعْتَرَضَ) أَيْ هَذَا الْبَعْضُ، وَهُوَ الْغَزِّيُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ، كَمَا اعْتَرَضَ أَيْ هَذَا الْبَعْضُ الْمَذْكُورُ، فَإِنَّهُ شَرَحَ الْكِتَابَيْنِ أَيْ الْمِنْهَاجَ وَأَبَا شُجَاعٍ.
قَوْلُهُ: (بِأَنَّ صَوْنَ اللِّسَانِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ) أَيْ فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَيْنِ: وَاجِبًا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ صَوْنِ اللِّسَانِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْدُوبًا مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ.
قَوْلُهُ: (يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ) أَيْ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ وَكَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
قَوْلُهُ: (إلَى آخِرِهِ) بَقِيَّتُهُ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ: " وَالْكَذِبُ وَالنَّظَرُ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَالْأَيْمَانُ الْفَاجِرَةُ " وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إبْدَالُ الثَّانِي بِقَوْلِ الزُّورِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ هُنَا) أَيْ مِنْ أَجْلِ بُطْلَانِ ثَوَابِ الصَّوْمِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قَوْلُهُ: