الْحَجِّ، رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ عَائِشَةَ أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُك؟ قَالَتْ: حِضْت وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَهِلِّي بِالْحَجِّ. فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا» . وَقَوْلُهُ قَبْلَ الطَّوَافِ أَيْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَلَوْ شَرَعَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ. (وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ فِي الْجَدِيدِ) وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ ثُمَّ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلْقُدُومِ، وَجَوَّزَهُ الْقَدِيمُ قِيَاسًا عَلَى الْعَكْسِ فَيَكُونُ قَارِنًا أَيْضًا وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ يُفِيدُ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِهَا بِالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا فِي أَشْهُرِهِ فَقِيلَ لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِدْخَالُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى صِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَقِيلَ يَصِحُّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَقْتَ إدْخَالِهِ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ الثَّانِي أَصَحُّ أَيْ فَيَكُونُ قَارِنًا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِهِمَا بَعْدَ مُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ مُرِيدٌ لِلْإِحْرَامِ كَانَ قَارِنًا أَيْضًا وَإِنْ أَسَاءَ.
(الثَّالِثُ التَّمَتُّعُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ مَكَّةَ) هَذِهِ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلتَّمَتُّعِ، وَيَلْزَمُهُ فِيهِ دَمٌ بِشَرْطِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ لَزِمَهُ دَمُ التَّمَتُّعِ مَعَ دَمِ الْإِسَاءَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَكَذَا لَوْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلنُّسُكِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ، أَوْ مِنْ مِثْلِ مَسَافَتِهِ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِالْمُتَمَتِّعِ اسْتِمْتَاعُهُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ (وَأَفْضَلُهَا) أَيْ أَوْجُهِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ (الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ وَفِي قَوْلٍ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ) وَأَمَّا الْقِرَانُ فَمُؤَخَّرٌ عَنْهُمَا جَزْمًا، لِأَنَّ أَفْعَالَ النُّسُكَيْنِ فِيهِمَا أَكْمَلُ مِنْهَا فِيهِ وَحُكِيَ عَنْ الْمُزَنِيّ
ـــــــــــــــــــــــــــــSالْأَكْبَرِ، وَقِيلَ عَنْهُمَا مَعًا لَمَّا قَالُوا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ قَالُوا فِي الْوُضُوءِ مَعَ الْغُسْلِ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: (عَلَى وَجْهٍ) أَيْ مَرْجُوحٍ. قَوْلُهُ: (مِنْ الْمِيقَاتِ) بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا قَيْدٌ. قَوْلُهُ: (فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) هُوَ غَيْرُ قَيْدٍ فِي الْإِحْرَامِ وَالْعُمْرَةِ. قَوْلُهُ: (قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ) وَلَا يَضُرُّ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ وَمَسُّهُ مَثَلًا. قَوْلُهُ: (فَلَوْ شَرَعَ فِيهِ) وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَهُ صَحَّ إحْرَامُهُ وَكَانَ قَارِنًا. قَوْلُهُ: (وَقِيلَ يَصِحُّ) هُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ) وَمِنْ مَكَّةَ لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ بَعْدُ. قَوْلُهُ: (مَسَافَةُ الْقَصْرِ) لَيْسَ قَيْدًا لِلُّزُومِ وَفِيمَا دُونَهَا أَوْلَى. قَوْلُهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــQطَوَافَيْنِ، وَسَعْيَيْنِ. قَوْلُهُ: (هَذِهِ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْقُرْآنِ) أَيْ بِخِلَافِ الصُّورَةِ فِي قَوْلِهِ، وَلَوْ أَحْرَمَ إلَخْ، وَكَذَا الصُّورَتَانِ فِي قَوْلِ الشَّارِحِ الْآتِي وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَخْ. فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ الصُّورَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَتَوَجَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَتْنِ الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ فَقَطْ. قَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْعَكْسِ) أَيْ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً، بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَلَمْ يُفِدْ الْإِحْرَامُ بِهَا شَيْئًا. قَوْلُهُ: (مُرِيدٌ لِلْإِحْرَامِ) احْتَرَزَ عَنْ غَيْرِ الْمُرِيدِ إذَا بَدَا لَهُ الْإِحْرَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الْمَتْنِ أَعْنِي قَوْلَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ.
قَوْلُهُ: (هَذِهِ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلتَّمَتُّعِ) أَيْ فَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُ الصُّوَرَ الْآتِيَةَ قَرِيبًا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ. قَوْلُهُ: (وَيَلْزَمُ فِيهِ دَمٌ) حِكْمَةُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا هُنَا مَعَ أَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّ الْفُرُوعَ الْمَذْكُورَةَ عَقَبَةٌ، تَكَلَّمَ فِيهَا الشَّارِحُ عَلَى حُكْمِ الدَّمِ فِيهَا. قَوْلُهُ: (وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ) احْتَرَزَ عَنْ دُونِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ حَاضِرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ اعْتِبَارُ الْمَسَافَةِ مِنْ الْحَرَمِ لَا مِنْ مَكَّةَ زَادَهَا اللَّهُ شَرَفًا كَذَا ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقُولُ: وَلْيَنْظُرْ فِي هَذَا وَفِي الْفَرْعِ الْمَنْقُولِ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَهُوَ إذَا دَخَلَ الْآفَاقِيُّ مَكَّةَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلنُّسُكِ، فَكَمَا دَخَلَ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ صَارَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ إذْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قَصْدُ الْإِقَامَةِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَوْضِعُ تَوَقُّفِهِ، وَلَمْ أَرَهَا لِغَيْرِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْإِقَامَةِ مِمَّا يُنَازِعُ فِيهِ كَلَامَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ، وَنَقْلَهُمْ عَنْ النَّصِّ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِهَا بَلْ فِي اعْتِبَارِ الِاسْتِيطَانِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ لَيْسَ بِحَاضِرٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ مَقَالَةَ الْغَزَالِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَكَذَا لَوْ جَاوَزَهُ إلَخْ) أَيْ سَوَاءٌ بَلَغَ مَكَّةَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَمْ لَا كَمَا سَيَأْتِي ثُمَّ غَرَضُ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْفُرُوعِ هُنَا الْحُكْمُ عَلَى فَاعِلِهَا، بِأَنَّهُ مُسَمًّى مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمَتْنِ يَأْبَى ذَلِكَ، فَقَدْ اعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ بَيَانُ الصُّورَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ) جَعَلَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ هَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْفَاضِلِ. قَالَ: بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعُمْرَةِ عَنْ الْحَجِّ وَفِعْلِهَا فِي سَنَتِهِ.