عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يَقُولُ: جِئْتُكُمْ خَاطِبًا كَرِيمَتَكُمْ، وَيَخْطُبُ الْوَلِيُّ كَذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُ لَسْت بِمَرْغُوبٍ عَنْك، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَيَحْصُلُ الْمُسْتَحَبُّ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ مِنْ الْوَلِيِّ أَوْ الزَّوْجِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، (وَلَوْ) (خَطَبَ الْوَلِيُّ) ، وَأَوْجَبَ كَأَنْ قَالَ الْحَمْدُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ زَوَّجْت إلَى آخِرِهِ، (فَقَالَ الزَّوْجُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلْت) إلَى آخِرِهِ، (صَحَّ النِّكَاحُ) مَعَ مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، (عَلَى الصَّحِيحِ) ؛ لِأَنَّ الْمُتَخَلِّلَ مُقَدَّمَةُ الْقَبُولِ فَلَا يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ كَالْإِقَامَةِ بَيْنَ صَلَاةِ الْجَمْعِ، وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُتَخَلِّلَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ (بَلْ) عَلَى الصِّحَّةِ (يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ) الذِّكْرُ بَيْنَهُمَا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ (قُلْت: الصَّحِيحُ لَا يُسْتَحَبُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) بَلْ يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحُ التَّعْجِيزِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَبْطَلَ بِهِ، وَسَكَتَ عَنْ اسْتِحْبَابِهِ فِي الرَّوْضَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا وَلَا فِي أَصْلِهَا حِكَايَةُ مُقَابِلِهِ، (فَإِنْ طَالَ الذِّكْرُ الْفَاصِلُ) بَيْنَهُمَا (لَمْ يَصِحَّ) ، النِّكَاحُ قَطْعًا، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الذِّكْرُ مُقَدَّمَةَ الْقَبُولِ، فَلَا يَضُرُّ إطَالَتُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSعَلَى ذِكْرِ أَشْخَاصِ الْعَيْبِ ذَكَرَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ اُسْتُشِيرَ فِي نَفْسِهِ وَجَبَ ذِكْرُ الْعَيْبِ إنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ كَعُنَّةٍ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً كَبُخْلٍ سُنَّ ذِكْرُهُ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَسَتْرُ نَفْسِهِ. قَوْلُهُ: (عُيُوبَهُ) أَيْ الشَّرْعِيَّةَ أَوْ الْعُرْفِيَّةَ. قَوْلُهُ: (لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَسُوءُهُ) فَهِيَ مِنْ الْغِيبَةِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بَذْلًا لِلنَّصِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَحَالِّ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْغِيبَةُ وَبَعْضُهُمْ عَدَّهَا سِتَّةً وَنَظَمَهَا بِقَوْلِهِ:
لَقَبٌ وَمُسْتَفْتٍ وَفِسْقٌ ظَاهِرٌ ... ظُلْمٌ وَتَحْذِيرٌ إزَالَةُ مُنْكَرٍ
وَيَجُوزُ الْكَذِبُ فِي مَوَاضِعَ فِي الْجِهَادِ لِتَفْرِيقِ الْكُفَّارِ، وَفِيمَا يَتَجَاهَرُ بِهِ الْفَاسِقُ، وَفِي دَفْعِ ظَالِمٍ عَنْ مَالٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ عِرْضٍ كَذَلِكَ وَفِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفِي جَبْرِ خَاطِرِ امْرَأَةٍ أَوْ وَلَدٍ، وَالْغِيبَةُ وَصْفُ الْغَيْرِ وَلَوْ بِالْقَلْبِ بِمَا يَكْرَهُ، وَلَوْ عُرْفًا فِي نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجِهِ أَوْ مَالِهِ، نَعَمْ لَا تَحْرُمُ بِالصَّلَاحِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ كَرِهَهُ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يَجُوزُ غِيبَةُ الْعَالِمِ بِمَا هُوَ مُتَجَاهِرٌ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَسَاهَلُوا فِي ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: (فَالْيَاءُ) أَيْ فِي آخِرِهِ بَدَلٌ مِنْ الْهَمْزَةِ لِوُقُوعِهَا طَرَفًا فَحُقِّقَتْ بِالْإِبْدَالِ. قَوْلُهُ: (قِيَاسٌ إلَخْ) ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ مَفَاعِلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدُهَا زَائِدًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ.
قَوْلُهُ: (وَيُسْتَحَبُّ) أَيْ إنْ جَازَ التَّصْرِيحُ فِي الْخِطْبَةِ. قَوْلُهُ: (كُلُّ أَمْرٍ إلَخْ) تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. قَوْلُهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ كُلُّ كَلَامٍ) هُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ أَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْمَقْصُودِ هُنَا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَرْدَ الْعَامِّ بِحُكْمِهِ لَا يُخَصِّصُهُ وَلَيْسَ مِنْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. قَوْلُهُ: (فَيَحْمَدُ اللَّهَ إلَخْ) سَكَتَ عَنْ قِرَاءَةِ الْآيَةِ وَالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ نَدْبِهِمَا أَيْضًا، كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مَعَ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى خِطْبَةً إلَّا بِذَلِكَ إمَّا؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: (قَبْلَ الْعَقْدِ) يُوهِمُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَأْتِي فِي الْخِطْبَةِ الَّتِي فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ، وَلَا فِي خِطْبَتَيْ الْخِطْبَةِ بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَلَعَلَّهُ لَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ هَذَا لِأَجْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَعْدَهُ، وَقَدْ يُقَالُ كَلَامُهُ شَامِلٌ لَهَا بَلْ لِلْخُطَبِ الْأَرْبَعِ بِأَنْ يُرَادَ بِمَا قَبْلَ الْعَقْدِ مَا قَبْلَ تَمَامِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ.
فَائِدَةٌ: فِي ذِكْرِ خِطْبَةِ النَّبِيِّ حِين زَوَّجَ بِنْتَهُ فَاطِمَةَ لِعَلِيِّ ابْنِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَلَفْظُهَا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودُ بِنِعْمَتِهِ، الْمَعْبُودُ بِقُدْرَتِهِ، الْمُطَاعُ بِسُلْطَانِهِ، الْمَرْهُوبُ مِنْ عَذَابِهِ، وَسَطَوْتِهِ، النَّافِذُ أَمْرُهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَسَيَّرَهُمْ بِأَحْكَامِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَجَعَلَ الْمُصَاهَرَةَ سَبَبًا لَاحِقًا وَأَمْرًا مُفْتَرَضًا أَوْشَجَ أَيْ شَبَّكَ بِهِ الْأَيَّامَ وَأَكْرَمَ بِهِ الْأَرْحَامَ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54] الْآيَةَ، وَلِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلٌ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» . قَوْلُهُ: (إلَى آخِرِهِ) هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شَامِلٌ لِبَقِيَّةِ الْخِطْبَةِ، وَبَقِيَّةِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَى آخِرِ مَا يُطْلَبُ لَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَضَى. قَوْلُهُ: (وَسَكَتَ عَنْ اسْتِحْبَابِهِ فِي الرَّوْضَةِ) وَلَمْ يَسْتَدِرْك عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ ارْتَضَاهُ وَهُوَ يُخَالِفُ مَا هُنَا. قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ إلَخْ) زِيَادَةُ اعْتِرَاضٍ لِإِيهَامِ اسْتِحْبَابِهِ بِلَا خِلَافٍ. قَوْلُهُ: (قَالَ الرَّافِعِيُّ إلَخْ) فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى عَدَمِ الْخِلَافِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُقَدِّمَةَ الشَّيْءِ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ غَالِبًا، وَخَرَجَ بِالْخِطْبَةِ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ يَسِيرًا وَالسُّكُوتُ الْمُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَهُمَا مُطْلَقًا.
فَرْعٌ: دَفْعُ الْخَاطِبِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ وَلِيِّهِ شَيْئًا مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ أَوْ نَقْدٍ أَوْ مَلْبُوسٍ لِمَخْطُوبَتِهِ أَوْ لِوَلِيِّهَا ثُمَّ حَصَلَ إعْرَاضٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مَوْتٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا رَجَعَ الدَّافِعُ أَوْ وَارِثُهُ بِجَمِيعِ مَا دَفَعَهُ إنْ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا وَكَذَا بَعْدَهُ إنْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ مَاتَ إلَّا إنْ مَاتَتْ هِيَ وَلَا رُجُوعَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُطْلَقًا.
قَوْلُ الْمَتْنِ: (وَيُسْتَحَبُّ إلَخْ) قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: احْتَجَّ لَهُ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» فَفِيهِ اسْتِنْزَالُ الْمَرْغُوبِ إلَيْهِ بِالْبَيَانِ وَبِالسِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ الْأَنَفَةِ فِي أَمْرِ الْمُولَيَاتِ. قَوْلُ الْمَتْنِ: (قُلْت الصَّحِيحُ إلَخْ) ذَهَبَ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ بِهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ حَاصِلُهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَالثَّانِي اسْتِحْبَابُهُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يَبْطُلُ خَارِجٌ عَنْهُمَا اهـ. قَوْلُ الْمَتْنِ: (فَإِنْ طَالَ الذِّكْرُ إلَخْ) هَذَا الْكَلَامُ مَعَ مَا سَبَقَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الذَّكَرِ مِنْ الْكَلَامِ يَضُرُّ وَلَوْ يَسِيرًا.