وكذلك أوشكت أن تكون مقدونيةُ مدينةً فاضلة في زمن مُلْك الإسكندر بن فيليبوس، ووزارة أرسططاليس له. غير أن ذلك لم يخلص لهما، ولم يلبث أن غضب أرسططاليس على الإسكندر، وفارقه فراقًا لا لقاء بعده. وقد اعترف أفلاطون بعده بقرون (?) بأن ليس في نظام الجمهورية في أثينا في زمانه ما يجعلها ملائمةً للحكمة والفضيلة التامة. واضطرب العالم عقب ذلك اضطراباتٍ عامةً في كل مكان؛ فلم يتأتَّ إيجادُ المدينة الفاضلة.
كان الرسلُ - كما قلنا - أولَ المصلحين للبشر وأعظمَهم، وكان الحكماءُ من أتباع الرسل ومن غيرهم يظهرون في فترات من التاريخ يكملون الإصلاح، ويبرهنون عليه، فرجعت محاولةُ إيجاد ما يُسمَّى بالمدينة الفاضلة إلى دعوة الرسل؛ فلا جرم أن يكون أعظمَ الرسل الذي جاء بالدين الخالص القيم، والذي هو المقصدُ من الإصلاح الأخيرِ للبشر: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والذي كانت الأديانُ الماضيةُ معه بنسبة مقدمة الجيش للجيش: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، والذي كانت دعوتُه عامةً لسائر البشر، والذي هو أفضلُ الرسل، لا جرم أن يكون ذلك الرسولُ هو الذي ادُّخر له تأسيسُ المدينة الفاضلة في جملة ما ادُّخر له من الفضائل الجمة.
جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى إصلاح البشر قاطبة، وشملت دعوتُه علاج إصلاح الأفراد وإصلاح المجموع؛ فكان مرماها إيجادَ المدينة الفاضلة، وإعدادَ أمةٍ فاضلة لها. ولم تشتمل دعوةُ رسولٍ ممن جاء قبله على ما اشتملت عليه دعوته من أصول نظام الاجتماع وتفاصيله؛ فبقي بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الدين، ويُصْلِحُ نفوسَ الذين آمنوا به والتفوا حوله، فكانت في مكة جماعةٌ فاضلة هي زَرْع المدينة الفاضلة.