فلما تهيأت للدعوة ساعةُ الانتشار، وتردد صداها في معظم بلاد العرب، وأصغت لها آذان السامعين، وانفتحت أعينُ الناس إليها، ألهم اللهُ الأوسَ والخزرج - أهلَ مدينة يثرب - إلى الدخول في الإسلام إلهامًا خارقًا للعادة، فأصبح سكان تلك المدينة كلهم مسلمين، وبذلوا أنفسَهم وأموالهم ووطنهم لنصر هذا الدين، فأذن الله لرسوله وللمسلمين معه في الهجرة إلى هذه المدينة. فانتقل إليها الرسول بِمَنْ معه من المسلمين بمكة، ودعا اسمها "طيبة"، وخصها الله تعالى بشرف أن تكون محققةً أمنيةَ المدينةِ الفاضلة. ومن العجب أن الله ألهم الناس إلى أن يدعوا هذه البلدة باسم "المدينة"، وأنساهم اسم يثرب واسم طيبة أيضًا، ليكون ما جرى على الألسنة رمزًا إلَهيًّا لطيفًا إلى أنها المدينةُ المقصودة، والضالةُ المنشودة.
دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة (يثرب)، ودخلها خمسون رجلًا من أصحابه المهاجرين، وهم المسلمون الأولون. وكانت المدينة تحتوي على زهاء خمسة آلاف رجل من الأوس والخزرج وأحلافهم، كانوا مسلمين إلا قليلًا منهم لا يبلغون مائة رجل. فتلك مدينة سكانها أفاضلُ أهلِ عصرهم، قد تطهرت نفوسُهم بإقبالهم على الخير، والتزكية بمحض الاختيار.
إن قوام المدينة الفاضلة يتقوَّم من صلاح الأفراد في خاصتهم، وصلاح المجتمع المتقوِّم منهم في حال معاملتهم؛ ومن سهولة طباعهم مع المسالمين، ومن الشدة والذب عن حوزتهم أمام العدو، ومن سياسة تدبير جماعتهم. فإذا تقومت هاتِهِ الأصولُ في المدينة حصل فيها الأمن، وهو جالبُ جميع الخيرات لكل أهل المدينة، وجاعلُها أفضلَ مدينة.
لا جرم أن المدينة كالجسد: فكما يتركب الجسدُ من الأعضاء والجوارح، كذلك تتركب المدينةُ من آحاد الناس. وإن سلامةَ المدينة وفضلَها كصحة المزاج، (?)