أن الله تعالى حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا متصفين بكل وصف قويم. (?) وإنما يتضح كمالُ هذا التمدن إذا كان مظهرُ هؤلاء المتحدين كاملًا، ولا يكمل مظهرُهم إلا بكمال أفرادهم، فإذا كمُلتْ أفرادُهم كمُلَ المجتمعُ المتركِّب منهم؛ لأن المركَّبَ من الصالِحِ صالح. فليس المرادُ بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع؛ إذ قد ينتظم حالُ النوع انتظامًا ما - أي في الجملة - بمجرد صلاح قليل، فيسلم من الهلاك، ويعيش عيشًا بسيطًا، ولكنه لا يكون على حالة ملائمة لحال التقويم الجبلي الذي خلق عليه. (?)
أودع خالقُ النوع سبحانه في جِبِلَّة أفراده عقلًا يهديهم إلى إيجاد وسائل قليلة لحفظ النوع كما قدمنا، ولكنه لمَّا علم أن ذلك غيرُ كاف في العروج بهم إلى معارج الكمال التي أُعدوا لها، ولا في الخروج عن مآزق قد يلقون أنفسهم فيها، قيض الله دعاةً يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم مواقعَ الردى، وهم العارفون.
فمنهم أنبياء تولى الحقُّ إرشادَهم إلى ما فيه صلاحُ قومِهم، ومنهم حكماءُ خصَّهم الله بعقول تفوق عقولَ عامة أقوامهم، وخصَّ الفريقَيْنِ بِجلائل الصفات النافعة في إيصال الإصلاح إلى البشر، غير مشوب ولا مؤرب. (?)