لَوْلَا الْعُقُولُ لَكَانَ أَدْنَى ضَيْغَمٍ ... أَدْنَى إِلَى شَرَفٍ مِنَ الإِنْسَانِ (?)

وقد صار الإنسانُ بموجب هذا الاحتياج إلى التعاون والتكاتف مضطرًّا إلى اقتراب بعض أفراده من بعض، وإلى التكثر من هؤلاء المقتربين والمجتمعين، وإقامة بعضهم حيال بعض، ليجد كلٌّ عند احتياجه مَنْ يسارع إلى سد خُلته. فاضطرَّ إلى التجمع والإقامة، وهو المعبَّر عنه بالتمدن المأخوذ من لفظ المدينة، الذي هو مشتق من فعلٍ مُماتٍ في اللغة العربية وهو فعل مدَن. ثم إن هذا الْخُلَق الجِبِلِّي من شأنه أن يتدرج بهم في سُلَّم الارتقاء، ولا يزال يغريهم نوالُ شيءٍ بالتطلع إلى ما فوقه. (?)

ثم إن هذا التمدن يُفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجودُ منه لا يفي بإرضاء الجميع، أو إلى اختلافهم في وسائل السعي إلى ما يدفع عنهم ضررًا، أو يجلب إليهم نفعا. فكانوا في اجتماعهم ذلك مَظِنَّةَ حدوثِ الخلافُ بينهم، وكان ذلك الخلافُ من شأنه أن يهيِّج ما فيهم من قوة الغضب، ويحمل بعضَهم على مقارعة بعض. فيصير بعضُهم سببَ إتلافِ مصالح بعض، وإفساد ما أصلحوه في تجمعهم بعد أن كان تجمعُهم سببَ تحصيل تلك المصالح، فيؤول اجتماعهم في الإهلاك والضلال عائدًا على مقصدهم الأول بالإبطال.

فلذلك لم يزل الساعون إلى إصلاحهم من الأنبياء والحكماء يدعونهم إلى الاستقامة، وينبهونهم على أن مرادَ الله منهم أن يكون مجتمعُهم كاملًا، ومدينتُهم فاضلة؛ ليكون لهم من تقويم أحوالهم ما يلائم أحسنَ تقويم خُلِقوا عليه، الدال على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015