ثم إن علماء المعاني قفَّوا عليه بما يزيده بيانًا ويعصِم المتأمِّلَ من اختلاط المقصود بكلمة "معنى" في مختلف إطلاقاتها، مما أفاده السكاكي في المفتاح وشارحو كلامه، من أن المعنى الذي يجيش في نفوس البلغاء ثلاثة أقسام: قسم سمَّوْه أصلَ المعنى، وهو الأغراض المجملة التي يُرادُ إفادتُها من خبر أو إنشاء. وهذا المعنى هو الذي يُفاد بكلامٍ بسيط، وهذا يجيش في الناس من الخاصة والعامة، وليس هو موضوع الاختلاف (?). وقسم سَمَّوْه معنى أول، وهو الأغراض الخاصة التي يقصدها البلغاء لنكتة، مثل ردِّ الإنكار. وقسم سموه معنىً ثانيًا، ويقال له: "معنى المعنى" (?)، وهو الخواص الكلامية التي تفيد كيفيات في المعاني الأول، مثل القصر والاستغراق والكناية والمبالغة، وهذا خاص ببلغاء الكلام العربي.

فإذا علمتَ هذا، فلْنَرجِعْ إلى بيان كلام المؤلف.

"المحاولة" ابتغاء الشيء وتطلُّبُه، و"الشرف" حصول صفات الكمال النوعي في بعض أفراده. فشرفُ المعنى أن يكونَ من أحاسن المعاني المستفادة من الكلام، بأن يَتلَقَّى فهمُ السامع المعنى مستغنيًا به في استفادة الغرض الذي يُفاد به. وقد وصف المؤلِّفُ المعنى هنا بـ "الشرف والصحة"، ووصفَه فيما تقدم بـ "المعجِبة الجَزْلة، العذبة الحكيمة، الزاهرة الفاخرة".

وطريقةُ صَوْغ المعنى الشريف هي أن يَلحظ البليغُ ما يجيش في نفسه مما يريدُ إبلاغَه إلى نفس السامع، فينشئه في نفسه، ويكيفه بأحسن صورة يَرى أنَّها تقعُ لدى السامعين موقعًا حسنًا يفي بمراد الشاعر، ويليق بالغرض الشاعري، معتمدًا في تحصيل تلك الكيفية على فِطنته ودُربته المتولِّدة في ذوقه بما ورد على ذهنه من محاسن البلغاء والحكماء والعلماء، فأكسب ذوقَه صورًا غيرَ جزئية، يقيس عليها أمثالَها إذا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015