وقد كنا وعدناك أيها الناظرُ عند قول المرزوقي آنفًا: "هم أصحاب المعاني"، بأن نبين المراد بالمعنى، فهذا أوان أن نبينه. اعلم أن الشيخ عبد القاهر قال في "دلائل الإعجاز": "إن قولنا المعنى في مثل هذا يُراد به الغرضُ الذي أراد المتكلم أن يبينه أو ينفيه، نحو أن تقصِد تشبيهَ الرجل بالأسد، فتقول: زيدٌ كالأسد، ثم تريد هذا المعنى بعينه فنتول: كأن زيدًا الأسد، فتفيد تشبيهَه أيضًا بالأسد. إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادةً لم تكن في الأول، وهي أن تجعلَه من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء، بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يُقصَّر عنه حتى يُتوهم أن أسد في صورة آدمي". (?) ثم قال: "الكلام على ضربين: ضربٌ أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تُخبر عن زيد مثلًا بالخروج على الحقيقة فقلت: خرج زيد، [وبالاطلاق عن عمرو فقلت: عمرو منطلق، وعلى هذا القياس]. وضربٌ آخر لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلُّك اللفظُ على معناه الذي يقتضيه موضوعُه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالةً ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل". (?)
ثم قال عقب ذلك: "وإذا عرفت هذه الجملة، فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى: المفهومَ من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنىً، ثم يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسرت لك". (?) ثم قال: "فالمعاني الأُوَل المفهومة من أنفس الألفاظ، والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني الأول". (?)
فهذا كلام الشيخ تمييزًا بيَّن المراد بالمعنى.