هو المعنى دون اللفظ؛ لأن اللفظ يكون معروفًا عند أرباب صناعة التأليف دائرًا فيما بينهم، والمعنى قد يُبتدع فيذكر المؤلف معنى لم يسبق إليه" إلخ (?).
فمعنى قول المرزوقي: "مَنْ قصد فيما جاش به خاطرُه إلى أن تكون استفادةُ المتأمل له والباحث عن مكنونه من آثار عقله أكثرَ من استفادته من آثار قوله"، أن أهلَ هذا المذهب يصرفون أكبرَ اهتمامهم عند قصدهم إفادةَ المعاني الأصلية إلى أن يودعوها في صور من المعاني البيانية تفيد متأمِّلَها معانِيَ جمةً ليس كلُّ معنى منها مستفادًا من جملة أو عبارة، بل يُستفاد الكثيرُ منها من الجملة الواحدة، وذلك بحسن التوصيف بتشبيه قريب واستعارة لائقة.
وسيشير المؤلِّف إلى ما يحاوله البلغاء من ذلك بكناية وتعريض وضرب للأمثال، وبمراعاة تأثر السامعين على حسب اختلاف طبقاتهم، وتنوع مقامات خطابهم بما يناسب تلك المقامات من التصوير من خشونة أو رقة، ومن جِدٍّ أو مزح، ومن تصريح أو رمز. ويحصل بذلك الإيجازُ الذي هو زينةُ كلام البلغاء كما قيل "لمحة دالة"، مما لو جُعل لكل مراد منه لفظٌ أو جملةٌ لطال الكلامُ، وفاتت براعةُ مؤلفه، وضاعت فطنةُ متأمِّله أو تساوت درجاتُها. فإذا نظرتَ إلى قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4]، وجدت التصور المفاد من كلمة اشتعل مغنيًا عن أن يُقال شاب شعر رأسي دفعةً واحدة، ولم يترك الشيبُ منه شيئًا، كالنار إذا التهبت في الحطب، فتصوير الاشتعال أفاد ذلك كلَّه.
وأما معنى مفردات كلام المرزوقي فقوله جاش فاض، والخاطر الذهن باعتبار جولته في المعاني، فكأنه يخطر في خلالها أي يصثي. ومقصود المرزوقي أنه نشأت في نفسه المعاني التي أراد إفادتها ثم جالت في نفسه حتى تمكنت ووضحت، فشبه ذلك التمكن بالجيشان وهو غليان القدر.