أن مثارَ ذلك الإدراك الحاصلِ لهم من أين نشأ: أهو من جانب مباني الألفاظ وانتظامها أم من جانب المعاني وصورها؟ ثم احتاروا في شرح أسباب حصول ذلك في أحد الجانبين أو في كليهما. فاستعان كلُّ واصفٍ على إبانة الأوصاف التي تعقلها إبانةً بما حضر لديه من التقريب والتشبيه والتمثيل، عسى أن يبلِّغ ما في نفسه إلى نفوس المجاذبين والمسترشدين.
فشبهوا المعاني تارةً بأحوال الأناسي والحيوان من الجواري والظباء، وأحوال المتاع النفيس من حلي أو نحو ذلك. ثم استتبعوا تلك التشبيهات بالبناء عليها، فجعلوا للجواري معارضَ ومطارفَ، وجعلوا الحيوان وحشيًّا وأُنسيًّا، ووصفوا اللفظَ المقبول بالنبيه وبالشريف، وضدَّه بالهجين وبالرديء والمستكرَه. ووصفوا المعنى المقبولَ الرفيع بالكريم، وضدّه بالحقير والفاسد والدني والساقط (?). ثم عززوا ذلك كله بالمقارنات بين منشآت البلغاء والموازنة بينها. وقد تصدى المؤلِّفُ إلى تقريب ذلك كله، والجمع بين مختلِفِه بما تفنَّنَ في أوصافه، مع الحرص على الاحتضار، فقال:
• "اعْلَمْ أنَّ مذاهبَ نقاد الكلام في شرائط الاختيار مختلفةٌ وطرائقَ ذوي المعارف بأعطافها وأردافها مفترقةٌ، وذلك لتفاوت أقدار منادحها على اتساعها وتنازح أقطار مظانها ومعالمها، ولأن تصاريف المباني التي هي كالأوعية وتضاعيف المعاني التي هي كالأمتعة في المنثور اتسع مجالُ الطبع فيها ومسرحُه، وتشعب مَرَادُ الفكر فيها ومطرَحُه" (?)،
وكان الخائضون في هذا الشأن فريقين: