المذهب هو الكلامُ الذي هو قوالبُ للمعاني، كما أفصح عنه المرزوقي في آخر كلامه بقوله: "فأكثرُ هذه الأبواب لأصحاب الألفاظ، إذْ كانت للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأرادوا أن يلتذَّ السَّمْعُ بما يُدْرِكُ منه وَلَا يَمُجَّه، ويتلقاه بالإصغاء إليه والإذْنِ له فلا يحجُبَه"، ثم بقوله: "ومن البلغاء من قصد فيما جاش به خاطرُه" إلخ (?)،

وحاصلُ ما أشار إليه المؤلفُ اختلافُ أئمة النقد في تعيين الناحية للكلام التي منها يكون فضلُه أو ضدُّه، وبها يستحق اختياره أو ردّه.

وسببُ هذا الاختلاف في مرجع التفضيل أن أهل النقد والاختيار وجدوا في أنفسهم إدراكًا للتفاضل بين كلامات البلغاء تفاضلًا توافقوا عليه في الغالب، واختلفوا فيه تاراتٍ بين مختار ومنتقد، فأيقنوا أنهم ما اتفقوا على الكلام الذي اتفقوا على تفضيله إلا لخصالٍ اشتمل عليها موجبةٍ لتفضيله، متساويةٍ في الثبوت عندهم، وأنهم ما اختلفوا في الكلام الذي اختلفوا فيه إلا لخصالٍ تخالف الخصالَ التي اعتادتْ نفوسُ أهل الاختيار استحسانَها وتوافق الخصالَ التي اعتادت نفوسُ أهل النقد كراهتَها. فأيقنوا أن من خصال الكلام ما هو حقيقٌ بأن يكون مناطَ اختيارٍ وضده، فكان ذلك الإدراكُ في اتفاقهم واختلافهم حافزًا لهم للبحث عن جوامع تلك الخصال ومقوماتها. وعلموا أن إدراكهم وفاقًا وخلافًا يرجع إلى معتادهم من مزاولة مختلِف أحوال كلام البلغاء في مراتبه أعلاها وأدناها على وصف ما يسمعونه بحسن أو بدونه. وكان لكلِّ كلامٍ بليغ مبانٍ، أي ألفاظٌ بني عليها في حسن التئام وانتظام، ومعانٍ لها صورٌ في العقل يستجيدها السامعُ ويغتبط بها.

وكان ذلك الإدراك انفعالًا ذهنيًّا يؤول بالدربة إلى ملكات ذوقية، فلما حاولوا أن يستدلوا عليه عند المجادلين أو أن يصفوه للمتعلمين عند المدارسة، ضاقت الأفكارُ عن الإحاطة بأسبابه، والعبارةُ عن الدلالة على منابعه، فاحتاروا في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015