التصريحُ، حتى نَسِيَ الشعبُ المصريّ عداوَته الفَوّارةَ لبريطانيا، وتَابَع بعداوته أعداءَ سعد وأعداءَ الوفد المصري من المصريين، وانطفأتْ كلمة الحُرّية انطفاءً تامًّا، وسارَ الشعبُ في ظُلُماتٍ سُودٍ لا ينيرها شيءٌ إلى هذا اليوم.

28 - فَرِح الجيلُ الجديد من المثقَّفين، وقادَ الشعبَ إلى الفرحِ، بهذا الدستور الجديد، وباتت سياسة بريطانيا في فرح آخَر بانصراف الشعب إلى هذا الدستور الجديد. وصارت قيادةُ الأحزابِ المصرية جميعًا إلى جماعة المعتدلين في عداوة بريطانيا، وشاعَتْ كلمة المفاوضة والمعاهدة مكان كلمة الحرية والاستقلال، وثار الجدلُ على صفحات الجرائد وفي الكتب عن الدستور والمفاوضة والمعاهدة، وانقطع البحثُ في حقيقة معنى الحرية والاستقلال. ويومئذ ضمنت بريطانيا سيادة كلمة المعتدلين في عداوتها واستمرار هذه السيادة زمنًا طويلًا، وضمنت بريطانيا شعبًا كاملًا تشغَلُه كلمة المفاوضة والمعاهدة، ولا تشغله قليلا أو كثيرا كلمةُ الحرية أو كلمة الاستقلال، وضمنت بريطانيا صحافة يتولاها مصريون وأشباه مصريين تؤثر الاعتدال وتزيدُ الشعب إيثارًا له، وتحبُّ المفاوضة والمعاهدة وتزيدُ الناس حُبًّا فيهما، وضمنت الزمن وكرَّه على الناس وفِعْلَه في الشعوب، وضمنت تطوُّر الحياة الاجتماعية تطوُّرًا يُفْضِى بالشَّعْبِ إلى الاستهانة والتهاوُن، وإلى التَّسلية والتلهّي، وإلى السُّخْرية بالزعماء والقادة وهم يختلفون ويتنازعون على الحُكْم وعلى الأموال والمناصب، وإلى اشتغاله عن الحريّة الحقة بحياة الاستقلال الجديدة التي كَفَلَها لهم الدستور الجديد. وخلاصة ذلك كُلّه أن بريطانيا أرادت بتصريح 28 فبراير تمزيق وحدة الشعب، وصرفه عن حقيقة معاني الحرية والاستقلال- وأراد الزعَماءُ نَيْل السُّلطة التي يكفُلُها الدستور للأكثريّة. وأنتم تعلمون أيها الإخوان أن الأكثرية أخفقت في نيل ما أرادتْ على الزمن، وأن بريطانيا نجحتْ على الزمن في إدراك بُغْيَتْها من الشَّعْب العنيد الذي ابتُلِيَ بداء الحريّة. فكأنها رفعتْ يدها عن هذه الأداة المصرية (لحمًا ودمًا) في سنة 1924، البريطانية (كيدًا وهَوًى وإرادةً)، وقالتْ للناس: هذه بلادكُمْ: احكموها بأنفسكم، وتنازعوا على حكمها ما شاءَ لكم التنازع، وتنابزوا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015