باءتْ بالخسران، في نواح كثيرة، ولم يَنجعْ دواؤها في شفاء الشعب الحرّ من داءِ الحريّة. وعلمت أيضًا أن الحديد والنار لم يزد هذه الثورة إلا اشتعالًا. وعلمت أنّ سعدًا ومن يلوذُ به من شباب الجيل الجديد، ومن أهل الطويّة السليمة -أو الغفلة إِن شئت- فيهم استعدادٌ كريمٌ للملاينة والمسايرة والتفاهم والتعاون، لأنهم لا يؤمنون بقدرة الشعب الأعزل على طرد غاصبٍ يملك من القوّة والسلاح والإرهاب ما لا قِبَل لأحدٍ به، بل غاصبٍ خرجَ من الحرب العالمية الأولى منتصرًا ظافرًا على ألمانيا المخيفة وتُرْكيا الباسلة. فمن هذه العناصر جميعًا وضعت بريطانيا مُسَوَّدَة المسرحية الجديدة التي ينبغي لهذا الشعب أن يشهدَهَا، لكي يَنْسَى كلمة الحرية، وكلمة الاستقلال، فإن لم ينسهما، فليفهمهما على النحو الذي تريده بريطانيا. حريّة خائِفَة ترجو معونة بريطانيا في حياطتها حتى تنمو وتعيش، واستقلالٌ مذعورٌ، لا يستطيع أن يتخلَّى عن معونة بريطانيا في التمهيد لَهُ وفي كفالته، في عالمٍ تصطرعُ فيه القُوَى المسلّحة بالحديد والنار وبالسلطان والبطش.
25 - اشتعلت نار الثورة الجامحة في يوم الأحد 9 مارس 1919، وظلت تزداد اشتعالًا يومًا بعد يوم، ولم يُجْدِ الإرهابُ والبطش شيئًا، وكانت بريطانيا قد أعدّت الفصل الأول من المسرحية الجديدة، فأرسلت إلى مصر تلك اللجنة المشهورة باسم لجنة ملنر، فقاطعها الشعب الثائر، فعادت لم تنل شيئًا مِنْه أو من ثورته، ولكنها في الحقيقة نالت شيئًا كثيرًا، لأنها لقيت رجالًا يحفظون الودّ والعَطْف والجميل، ويؤمنون بأن بريطانيا تحبّ الخير أو بعض الخير لبلادهم، ورأت أنهم مستعدّون للتفاهم والتعاون؟ ! فبدأت المسرحية بأن وضعت اللجنة مشروع معاهدة لإرضاء المصريين فيما ترى، وترسله إلى الوفد المصري بزعامة سعد، وإذا زعيم الثورة يَرَى بأسًا في أن يفاوض بريطانيا في أمر هذه المعاهدة، وإذا هو يُعدُّ مشروعا آخر يفتتحه سعد بهذه الكلمات الخالدة: "أتشرف بأن أبلغكم نبأ استلام خطابكم المؤرخ 17 يوليه 1920 وإني أبادر فأعرض على فخامتكم طى هذه مشروع اتفاق يحوى النقط التي جرت المناقشة في شأنها في أحاديثنا، وهي النقط التي يلوح لي أنكم تقبلونها. ونحن نعتقد أن المشروع