الساكن- شتان بين النار المُشْعَلة، والنَهر المنسابِ. علمت بريطانيا أن الشَّعْب لن يَسْمَع بعد اليوم ذلك الصوتَ الذي يُضِئُ لَهُ شعاب الحرّية وأوديتها الغامضة. فتبسُط ما استطاعت للفئة الأخرى لكي تستكثر من الأعوان والأنصار، ومن المخدوعين والمغررين، وتبذلُ الأموال والرُشَى في الدواوين وفي غير الدواوين. وتأتي الحربُ العالمية الأولى، وتعلن الحماية على مصر والسودان، فتضطرب النفوسُ، وتتّطاير الأراجيف ويعظُم الطمع، ويقلُّ الوَرَع، وتخبث نفوسٌ وتَصْلُحُ نفوسٌ، وتَتَّسِع مِصْر لخبائث جيش الاحتلال، وتنحلّ الأخلاقُ انحلالا لا مثيل له في تاريخ مِصْر، ويستهتر الشبابُ، وييأس الشيوخ، ويظلُّ هذا البلاءُ أربع سنوات، فإذا مصر والسودان تجيش جيشانها العجيب في سنة 1919، وتذعَرُ بريطانيا من هذا الشعب الذي لا يموتُ ولا يريدُ أن يموت. وتعودُ كلمة الحريّة والاستقلالِ ناصعةً لا تشوبها شائبةٌ، يتنادى بها شعب كامِلٌ من أقاصى مِصْر إلى أبعد أَطْرافِها. شعبٌ كاملٌ يريد طرد بريطانيا من بلاده، يثور ثورة رجل واحدٍ لا يزيدُه الإرهاب والعنف والتقتيل إلّا مضاءٌ واشتعالًا، فماذا تفعل بريطانيا بهذا الشعب الغريب؟ .

24 - كانَ من حُسْن حظّ هذه الأمة الغاصبة أن الرجل الذي نفته، والذي ثارتْ الأمّة فجاءة وعلى غير توقّع منها أو من الثلاثة الذين زاروا دار الحماية في ذلك الوقت -هو "سعد زغلول"- الذي كان وزيرًا في وزارة مصطفى فهمي الأخيرة، وزوجُ ابنة مصطفى فهمي، والذي تعاون مع الاحتلالِ في زمنِ طغيان كرومر، والذي كان يَأْوى إليه طائفةٌ من الشُّبّان الذين عارضوا مصطفى كامل ولا يزالون يعارضون دعوته باسم الحرية الخالصة من الشوائب والقيود. وعلمتْ بريطانيا أنها تستطيع أن تتفاهم مع سعدٍ المنفيّ، ولكن هل يستطيع سعْدٌ أن يقاوِم تيّار الثورة التي أرَّثَها شبابٌ من المؤمنين بالحرية والاستقلال بلا قيد ولا شرطٍ؟ وهل يستطيع أن يردّ جماحَ شعبٍ بأسره لا يعرف شيئًا إلّا أنّه يريد الاستقلال، ويريد طَرْد الغطرسة البريطانية من أرض بلاده؟ هذا الشعب! . . هذا الشعب! عرفت بريطانيا يومئذ أن المسرحية الطويلة الأُولى في رفع الوزارات وخفضها قد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015