سنة من الاحتلال، جماعة من الشيوخ ممن يتزلّفون كما يتزلّفُ إلى الغاصبين، واستطاعَ أن يجدَ جماعةً من الشباب الجديد من ذوى الأطماعِ والمطامح البعيدة، ممن يفهمون الحرية والاستقلال كما تريدُ بريطانيا أن يكون. وتألفت الشركة برعاية مصطفى فهمي، وصدرت الصحيفة بعد أيام دنشواى وتولّاها فتىً مِصرىٍّ من الجيل الجديد هو "أحمد لطفي السيد" الذي سيصير فيما بعد المعلم الثاني أو الثالث لا أدري -وإذا الجريدة تدعو إلى سياسة الملاينة والاعتدال، وإلى التدرُّج في نيل حقوق البلاد، وإلى الاستقلال ولكنْ بعد أن يُتِمَّ الشعبُ تعليمه على يد الاحتلال. وتنقلب هذه الشركة إلى حزبٍ يعرف باسم حزب الأمّة، يجتمع فيه صغارٌ وكبارٌ- كبار من شيعة بريطانيا في خمسٍ وعشرين سنة، وصغارٌ نُشُئوا وأرضعوا لِبَانَ بريطانيا في خمسٍ وعشرين سنة. ويمهّد الكبار للصغار، وتمهّد صحافة الاحتلالِ لهذا النشء، وتولّى بريطانيا كثيرًا منهم المناصبَ العالية، وتستغِلُّ بريطانيا طُموحَ هذا الجيل إلى الحكْم والسلطان والمال، وتستغلُّ كُلّ ما في النفس الإنسانيّة من النوازع والشهواتِ، ويستغلُّ كرومر عميد الاحتلال شيوخًا من جلّة العلماء والوزراء، وأعضاء الجمعية التشريعية، في الثناء على هذا الجيل- ليعارضوُا ذلك الفتى المشاغب العنيد الذي لا يرضى أن يلين لبريطانيا، أو يستكين تحت لوائها، أو يدعَ ذكر الحرَّية الخبيثة التي يدعو الناس إليها، والشعبُ المصريّ ينظر إلى هذا الصراع بين الشبان المثقفين -بين مصطفى كامل، وشيعة حزب الأمة-
وترى بريطانيا انّ هذا الصراع خليقٌ أن يمزّقَ وحدة الشَّعبْ، ويجعَلَ فئة تنحازُ إلى هذا، وفئة تنحازُ إلى الآخرين، والزَّمنُ بعد ذلك سوف يعمل على توسيع الشُّقة من ناحية، وهي تعمل أيضًا إلى إِبلاغ إحدى الفئتين إلى أَسْمى المناصبِ وأعلى الدرجاتِ في الحُكْم وفي غير الحُكم.
23 - ويموت مصطفى كامل في سنة 1908، وتتنفَّس بريطانيا الصعداء، ويتنفَّسُ شيعتُها، لقد استراحوا من هذا الموجُ الصاخب الذي لا يهدأ. ويخلُفه فَرِيد، ولكن شتان ما بينهما -شتّان بين خطيب الجماهير، والسياسيّ