بريطانيا أن الزمن كفيلٌ بعد ذلك بأن يُرِيها أبناءَ مِصْر والسودان، وهم يسخرون لعبثٍ لا ينتهي بمستقبل مصر والسودان، وبمجد مصر والسودان ويريها أبناء مصر والسودان يفكرون في إصلاح مصر والسودان، وتحرر مصر والسودان ولكن على أسلوب ترضاه هي، وتؤثره هي، دون أن تَظْهر على المسرح بطغيانها وغطرستها إلّا عند الحاجة.

22 - كان هذا الجيل الجديد يتخلَّق ويجيش في رَحمِ أمّنا العظيمة -مصر والسودان، يتخلَّقُ كما تريده بريطانيا، يفكّر لبلاده ولكن بعقل بريطانى، ويحبُّ بلاده ولكن بالنظر إلى رَهْبَة بريطانيا وعظيم سلطانها، ويفهم معنى الحريّة والاستقلال، ولكنْ في حُدُودِ الحُكمْ البريطانىّ والسطوة البريطانية. هكذا أرادت بريطانيا، ولكنْ خابَ ظنُّها مرّة أُخْرى، فقد أراد الله أن ينبعث من بين هذا الجيل فتى واحدٌ: جاءَ يسعى من أعماقِ التاريخ، ويَصْرخُ من أغوار الشعب المصري، لا يرهبُ شيئًا ولا يردّهُ شيءٌ، فصرخ في الوادي صرخةً رَوَّعت القلوبَ في أكنّتِها. جاء مصطفى كامِل يتدفّقُ من جميع نواحيه، ويمضي على غُلَوائه كالسيل المتلاطم، وكانَ أصلبَ عودًا وأقوى مراسًا، وأعنف إرادة -من أن تزلزلَه مكايِدُ الغاصب أو ضرباتُه. واستطاعَ الفتى أن ينقذ مئاتٍ من الجيل الذي تعهّدت بريطانيا تكوينه وإنشاءه، واستطاع أن ينقذ آلافًا مؤلَّفة من الشعب ويهديهم إلى حقيقة معنى الحريّة والاستقلال. ولم تستطيع بريطانيا أن تهزمه، بل كان العكس، فروّعتْ بريطانيا باجتماع هذا الشعب الكريم مرّة أخرى في 1906 أيام دنشواى، كما روّعت باجتماعه ويقظته عند عَزْلِ مصطفى فهمي في يناير سنة 1893. وقالت بريطانيا: ما هذا الشعب الغريب؟ ما هذا الشعبُ الجاهلُ الذي يَكْمُنُ فيه حبّ الحريّة كما يكمن المرض الخبيث- يَخفى أشدّ الخفاء، ثم يَنتشر دفعة واحدة كالحريق المُشْعَل؟ كيف يتسنّى علاجه من داء الحريّة الخبيث؟ لجأتْ بريطانيا إلى مصطفى فهمي وزير الاحتلال، وأمرتْه أن يتلقّطَ لَهَا جماعةٌ ينشئون شركة مساهمة مصرية، لكي يصدروا صحيفة يومية، هي الجريدة. واستطاعَ مصطفى فهمي أنه يجد في سنة 1906 أي بعد أربع وعشرين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015