وإدارةٌ كُلُّها في يد الإنجليز، ودواوين تعمَلُ تحت سلطانهم، ورجالٌ يخدمونهم ويعاشرونهم، وأَمْوالٌ تنفق على شراء النفوس الضعيفة، ومدارسُ كلها تحت إشرافهم، كُلّ صغيرة وكبيرة مما يقرؤه الطُّلَّاب ومما يدرسونه، وكتب خاصة وضعت لخدمة الاحتلالِ من ناحية، ولإنشاء جيل من المتعلمين الجاهلين من ناحية أخرى، وصحافةٌ تحتضنها بريطانيا وغير بريطانيا من المستعمرين، تعمل وتتَّسِع وتنشر على الناس ما تريده بريطانيا أن يُنْشَر لإضعاف نفوس الناس وتثبيط عزائمهم في مقاومة الاحتلال، وشراذِمُ من الأجانب مسرّحةٌ في أرض مصر تستولى على تجارتها وصناعتها وزراعتها وسائر مصادر رِزْقها، وتسلب المصريين أموالَهم وتحتقرُهم وتفقرُهم تحت حماية الاحتلال، وحياة اجتماعية جديدةٌ تستهوى جماهير الشعب الجاهل الغافل، وآراءٌ تُذَاع فتستميل القلوب حينا وتنفّرها حينا آخر، وسلطانٌ يرهبُ ويخيفُ، ومودّة تنافق للعلماء وأصحاب الرأي فتفتنهم وتخذلهم، وأموالٌ تؤلّف القلوب النافرة، ومناصبُ تُوهب لمن يتطَّلبُ الجزاءَ أو المجد أو الشرف في بلاده المحتلة. ستّ وعشرون سنة، وذلك كُلُّه يحدث ويزداد اتساعًا على الزمن، وتظْهر آثارُه على مرّ الأيام. لماذا؟ لأنّ بريطانيا أرادتْ أن تضرب بمعاوِل اليأسِ في قلوب الذين شهدوا هزيمة بلادهم، وحضروا نكبة احتلالها. وأرادتْ أيضًا أن تطيل هذه المُدّة لكي تستطيع أن تنشيء من أهلِ مصر، ومن شباب مصر، جيلًا من المثقَّفين تريده على صورة بعينها. وأرادت أخيرًا وهو أَهَمُّ ما تريدُ: أن تجعل الشَّعْبَ يحارُ ويضطربُ وتتنازعه الأهواء والشهوات، ويضيعُ إخلاصه لبلاده في هذا الموج المتلاطم من الحياة الحديثة، ومن التدليس والتغرير ومجاذبة النوازعِ الفاسدِة، ومن اليأْس الغالِب والقُنُوط المدمِّر.

ستًّ وعشرون سنة، أرادتْ بريطانيا في خلالها أن تنشيء جيلًا من المثقَّفين اليائسين الطامعين في مناصب الدولة، يعينون غاصب بلادهم أو على الأقل يعتدلُون في عداوته. جيلٌ ينشأ من صميم مصر والسودان، لا يبغّضُه إلى الشعب ثوب الخيانة الفضّاح، الذي بغض إليه نوبار ومصطفي فهمي وأعوانهما. وتعلم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015