مراحِلَ، وعلى أوسع نطاقٍ يتصوره الناظرون، وبأخبث الأساليب التي تخطر على النفس الإنسانية. إنه نظامٌ يتعلَّق بالسياسة، كما يتعلّقُ بأساليب الحكم وبضمائر الحاكمين، ويتعلَّقُ بالمعاملات بين الناس، كما يتعلَّقُ بأخلاق الجماعات والأفراد، ويتعلّق بأعمال الناسِ في الحياةِ من تجارة وصناعة وزراعة، كما يتعلَّقُ بأفكار الناسِ في شئون العَقْل من علم وأَدبٍ وسياسة وفنّ، ويتعلّق بمعايش الناسِ في بيوتهم ومجتمعاتهم، كما يتعلّقُ بأهوائهم وشَهَواتهم في هذه الحياة، ثم يتعلَّقُ بآثار ذلك كُلّه في تدمير شعبٍ بأسره تدميرًا منظَّمًا لا يعرف إنسانيَّةً ولا شرفًا ولا كرامة. فهذا النظام كما ترون لا ينتهي إلى أسلوب من أساليب الحكْم في البلاد، بل ينتهي إلى أبشعِ غايةٍ في هذه الدنيا -إلى جمهور مسكين تُسَلَّطُ عليه كُلّ ألوان الفساد والانحلال، يأتيها طائعًا مختارًا حينًا، وراغبًا متحمّسًا حينًا آخر، وهو لا يدرى أن ما يأتيه هو البلاءُ الأعظم والشرُّ المستطير- بل أفظَعُ من ذلك إذ يمضِى الزَّمنُ فإذا الجمهور يعدّ ذلك الشرَّ خيرًا يحرصُ على إتيانه، ويظنُّ من ينهاهُ عنه أو يزجره، هو الكاره له، وهو عدوّه الذي يبغي له الغوائل، ويرى الناصح المشفق دسيسًا عليه يريدُه أن يتأخر وهذه الدُّنْيَا من حوله كُلَّها تتقدَّم. وأنا لا أرتاب في أن الجماهير مهما فعل بها الاستعمار، لن تفتأ مخلصة في بُغْضه، ومخلصة في حبها لأوطانها -ومع ذلك فهي لا تفتأ تسيرُ أيضًا في أخفي طرق الاستعمار وأوغدِها، تسيرُ فيها لأنها طرقٌ تزيُنُها الأهواءُ والشهواتُ، فلا تبصر فيها إلّا ما تحبُّ وما تشتهي. ومن للجماهير بأن تملك أهواءها وشهواتها، وليسَ لَهَا يومئذٍ هادٍ يعصمُها من مهالك هذه الأهواء والشهوات.
10 - هذه هي الدُّروب التي سلكها الاستعمار إلى تحقيق شرور كثيرة، ثم انتهى إلى شر منها، بل إلى الشرّ الأكبر -إلى أبناء المضطهدين، وإلى سلالة المعذَّبين، وإلى فرائس الغاصبين، فإذا هم يجاهدون في أن يرفعوا عن أنفسهم وعن أبنائهم آصارَ الاستعمار، وفي أن يميطُوا عن بلادهم شرَّه وشَناعته، وفي أن يدفعوا عن أعراضهم ذُلّه وعارَه- وهمْ في الحقيقة أعوانٌ له، وهم خدمٌ لدعوته -بل هم شرٌّ من ذلك، هُمْ معاول هدْمٍ يهدم بها الاستعمارُ كيان أمّتهم وشَعبهم