ولو ظل هذا الاستعمار سافرًا كيوم جاءَ، لظلّ الصراعُ بيننا وبينه سافرًا أيضًا، ولا انتهي إلَّا إلى أحد أمرين لا مناص منهما: إمّا أن يقضى علينا جميعًا، وإمّا أن نقضى عليه نحن جميعًا. والأمر الثاني هو الذي لا شكّ فيه، لأنه مصيرُ الاستعمار في كُلّ أرضٍ نُكبتْ به. بيد أنَ الاستعمار البريطاني -وهو رأسُ الاستعمار وحاميه في العالم كُلّه- أخبثُ من أن يظَلَّ ثابتًا على حالٍ واحدةٍ، يعلم أنّها تحشُد عليه الضغائن والأحقادَ، وتفضى به إلى هذا المصيرِ المحتوم. فماذا فَعَل؟ وكيف دبَّر وقدّر؟
8 - والإجابة على هذا السؤالِ القصيرِ من أعسَرِ الأشياء، لأنّها لا تتعلَّق بفترةٍ قصيرةٍ من الزمن، ولا بشَئ أو شيئين من أمور السياسة، بل هي تشمل أَقْصى ما تتخيَّل من الأشياء، وعلى أطولِ فترةٍ من الزمانِ، وأنا في حيرة تجعلني لا أستطيعُ أن أصوّر لكم في هذه الكلمة كُلّ ما يتمثل في صدري من أساليب الاستعمار، ولا أن أجمعها على ترتيبٍ أستحسنُه وأرضَى عَنْه. ولكني أذكر لكم أمرينِ أضمرهما الاستعمارُ البريطاني منذ وَضَع قَدَمَه في أية أرضٍ، وهُما فِعلُ الزَّمَن، وفِعْلُ الشهواتِ خيرها وشرّها. فهو يستعين بالزمن على الأمم، يطاولُها ويراوغُها، ويضربُ الضربة القاتلة ثم يسكنُ حتى تسكنَ النفوس، ثم يعودُ فيضربُ الضربة الأُخْرى ويكمن. وهكذا دواليك حتى يَصِل إلى الغاية التي ينشدها على مرّ الزمن. وهو يستعين بشهواتٍ الأفراد والجماعات على مرّ الزمن وتطوُّره، ويعطيها بقَدَر، ويحرمُها بقدَرٍ، حتى يستطيع على مرّ الزمن أيضًا أن يتحكم في توجيهها إلى الغرض الذي يَرْمِى إليه.
9 - ولقد علم الاستعمارُ منذ أول يومٍ أن الاحتلالَ العسكرى السافِر إن هو إلّا جبروتٌ يُفْرض على الناس فرضًا، ويصبُّ عليهم صَبًّا وهو إذن سئ المغبّة. فهو يرتكبه إلى حين، على أنه اضطرار وشرٌّ لا مناص منه، ثم يجهد جُهْدَه خلالَ ذلك أن ينشيء نظامًا تامًّا يكفُلُ له البقاء الثابت بغير حاجة إلى إظهار الاحتلالِ في أبغضِ صُوره وأظهرها، وهو الاحتلال العسكرى المحض، لكي يتفادّى اشمئزاز النفوس وانطواء القلوب على الأحقاد والبغضاء. وهو ينشيء هذا النظامَ على