5 - نعم، لم يستطعِ المستعمرون أنفسهم حين دخلوا البلاد التي استعمروها، أن يقولوا للعالم، أوْ أن يقولوا لأهل البلاد التي ابتُلِيتْ بهم: لقد جئنا نستعمركُمْ، أو لقد جئنا نحتلّ بلادكمُ. كلّا، بل اخترعوا للتدليس على أنفسهم شيئًا سَمَّوهُ "عبءَ الرجُل الأبيض"، أنفةً من خَسَاسة مَا يرتكبون. ثم قالوا بلسان السياسة: إنّما جئنا لإنقاذ هذه البلاد من الفوضى، أو جئنا لتخليص ذلك الشعب من الجهل والفساد، أو جئنا لرفع ظُلْم المهراجات أو الباشوات أو الطبقة الحاكمة عن الشعب الفقير المضطهد، أو جئنا لترسيخ دعائم عرشٍ تزعزعه الثورات والفتن، أو جئنا لحقٌ بسيط جدًّا أو واضح جدًّا، هو الحقّ المكتسب في حماية طريق الإمبراطورية. هذا هو الأسلوب القديم الذي كان المستعمرون يعبِّرون به عن عواطفهم النبيلة، وعن الحوافز السامية التي تدفعهم إلى ارتكاب الخيراتِ واقترافها - كارهينَ أو رَاضين.
6 - كان الاستعمارُ يومئذ في أوائل أمره، وكان المستعمرون يعرفون أتم معرفة أن الشعوب التي ابتُلِيتْ بهم سوف ترى استعمارهم سافرًا كما هو، لأنه كان يأتي عقب الغزو الحربى، ولأنه كان يقوم يومئذ على الاحتلال العسكرى الطاغِى وحده. وكانوا يعلمون أنهم مهما قالوا في تسويغ هذا الاحتلالِ، ومهما زيَّنوه بهذه العواطف الرقيقة والمقاصد النبيلة، فلن يجدوا من الجيل الذي شهد قارعة الاستعمار تحلُّ به إلّا عاطفةً واحدةً، هي النفورُ من هذا المعتدى على حريته، الغاصب لبلاده، المتسلّط في أمره بقوّة السلاح والإرهاب. ويعلمون أيضًا أنّ هذا الجيلَ سوف ينطوى على نفسه صابرًا مرابطًا، يترقَّبُ الفرصة للانتقاض على من احتَلّ بلاده، ويجمَعُ الأحقادَ في قلبه على الطاغى المستبدّ، ويُوَرِّث أبناءه هذه الأحقاد.
7 - ولو أصرّ الاستعمار البريطاني -مثلا- على أن يَظلّ احتلالًا عسكريًّا مجرّدًا منذ سنة 1882، لظلَّ الناسُ يجمعون له من الأحقاد والأضغان، ما كان خليقًا أن يقوّض أركانَهُ في أقل من خمسين سنة، ولم يُغْنِ عنه يومئذ "عبْء الرجل الأبيض"، ولا سائر العواطف النبيلة التي دخل من أجلها هذه البلاد.