طال الزمن أَلفَ هذا البغيض الثقيل فلم ينكره. أما أخبث صوره وأخفاها فهو الذي يأتي القلوبَ من أضعفِ أركانها، فيتمكّن ويضربُ بعروقه، ويستفِحلُ ويتفشَّى، حتى لا يكادُ ينفِرُ منه أشدُّ الناسِ بُغْضًا للاستعمار، وأصدقهم حَمْلةً على أصحابه وطواغيته.
3 - والأخطارُ الحديثة التي يشملها لفظُ الاستعمار كثيرةٌ لا يحصرها عدٌّ، وأظهرهَا الآنَ خَطَر المطامِعِ الديمقراطية التي هَبَّتْ على الشرق كالذئابِ الضَّوارِى في كُلّ أرضٍ وفي كُلّ ميدانٍ. وَخَطَر المطامع الشيوعية التي تَتَدسَّسُ إلى كُل قلبٍ، فتلقى فيه فتنتها، وتنفث فيه سُمُومها، ومن البلاءِ أن تجدَ كثيرًا من الناس لا يزالون يؤمنون بأنهم سوفَ ينالون خيرًا كثيرًا -أو بعض الخير على الأقل- على يد الفئة الديمقراطية، وأن تجد آخرين لا يزالون يؤمنون بأن الفئة الشيوعية لا تضمر كبيرَ شرٍّ لهذه البقعة المسكينة من بلاد العرب أو بلاد الإسلام أو بلاد الشرق. وهذا الضربُ من الإيمانِ، بل هذا الضربُ من الغَفْلَة، كان منذ قديم أكبرَ مَقَاصد الاستعمار، سَعَى إليه، ولا يزال يسعى إلى الإكثارِ منه، وإلى تزيينه عند الجَمَاهير، لا عند الطبقة المثقَّفة وحسبُ. ولقد أدرَكَ الاستعمارُ ما شاءَ من هذا المقصد، فمن أجل ذلك رأيتُ أن أَصرف وجه الحديث إلى ناحية من نواحي الاستعمار، أراها أجدَرَ بالبيانِ وبالفَهْمِ، وأرى التقصير في بيانها وإفهامها لجماهير الناسِ، هو الخطر الحقيقي الكامن، وراءَ خطر الديمقراطية ووراءَ خطر الشيوعية، أو وراء خطر الاحتلال العسكري السافر، أو خطر الاحتلال الاقتصادي الملثم، بل هي مادّة كُلّ خطرٍ يتجدّد علينا إلى أن يزول الاستعمارُ عن وجه هذه الدنيا.
4 - إنّ في الاستعمارِ فضيلةً واحدةً هو أنه شيءٌ بشِعٌ بغيضٌ، لا يشُكُّ أحدٌ في سوء مغبَّته إذا مَسَّه، أو توهَّم أنه سوف يمسُّه، وأنَّه كُلُّه لا يستطيع أحدٌ أن ينبرى للدفاعِ عنْه، وأنّه خَبَثٌ سافرٌ، لم يتيسَّر لأدْهَى الناسِ أنْ يذكرَه مصرِّحا باسمه، ثم يزعمُ أنه خيرٌ من بعضِ نواحيه، أو أن يحسّنَه جَهْرَةً في عيون الناس. وإذن فالاستعمارُ مكفيُّ الشرّ من هذه الناحية، وهي فضيلةٌ تُذْكَرُ له بالخيرِ.