أبناء أمتك فيثيرهم ويثير أحلامهم، ويجيش همتهم، ويوقظ نائم أحقادهم، ويرفع لهم مثل الحياة الحرة الشريفة العزيزة، ويهزهم هزا إلى صراع عدوهم وإن خيف بطشه وجبروته، ويحبب إليهم احتمال الأذى ولقاء الردى، والجود بالنفس والمال والولد ونعيم العيش وراحة الحياة الدنيا، فكيف يستطيع أن يركب هذا المركب الوعر من تتعلق نفسه بلقب يحرزه ونعمة يتقلب فيها؟ !

وأنت إذا قرأت هذه القصيدة الهمزية التي ذكرناها، رأيت شوقى يتدفع فيها تدفعًا شديدًا على خلاف أكثر شعره، فقد كانت كالموج المتدفق في أسلوبها، وهذا هو الأسلوب المختار لأكثر الشعر الوطنى في أي أغراضه كان. بيد أن شوقى لم يلبث حتى هجر هذا الأسلوب نفسه واتخذ أسلوبًا آخر يناقضه تمام المناقضة، فلان شعره واسترخت قوته، وبدأ يسمو إلى أن يكون حكيم هذه الأمم يضرب الأمثال، ويأتيها بشعر فيه فلسفة وحكمة، تقليدًا للشاعر "صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء" وهو المتنبى، كما وصفه في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه (ص 5 - 7). ومع ذلك لم يخرج شوقى من هذا التقليد إلا بأن يكون شاعرًا واعظًا، لا شاعرًا حكيما كما كان المتنبى وخليفته أبو العلاء المعرى، على شدة التفاوت بينهما. وأما السبب الذي من أجله عجز شوقى عن أن يكون حكيما على شدة تشبثه بهذا الوصف كما جاء في شعره، فشيء ليس هذا مكان بيانه والتدليل عليه.

ومن أعجب العجب أن شوقى الذي كان إلى سنة 1906 لا يدع شيئًا إلا قال فيه، قد اعتقل لسانه وسكن سكونًا حتى لا حراك به يوم وقعت كارثة دنشواي، فلم يقل شيئًا إلا أبياتًا من أرذل الشعر، قالها بعد عام مر على "حادثة هذه القضية في سبيل طلب العفو عن سجنائها"! كما قال في ديباجتها، وكان غاية ما قاله:

(نيرون) لو أدركتَ عهد (كرومر) ... لعرفتَ كيف تنفّذ الأحكام!

فمن شاء أن يرشدنى كيف استطاع شوقى أن يملك نفسه، فلا يذكر شيئًا عن احتلال بلاده وضياع استقلالها، وعن هذه الكارثة الوحشية التي حركت الكاتب الإيرلندى "برناردشو" -فليفعل مشكورًا. أما أنا فأرى أن القلب الذي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015