التي زلها توفيق بدعوة بريطانيا إلى نصرته على أبناء بلاده الذين ثاروا مطالبين بحقوقهم الدستورية. وشوقى يحفظ جميل البيت العلوى عليه، فيلتمس العذر لتوفيق بأن يشترك الشعب المصري في هذه البلوى التي حلت بهما جميعًا. ثم يذكر في آخر القصيدة عهد عباس الثاني، فإذا فيه إشارة "خفية" إلى ما كان من إقالته لوزير الاحتلال وقلة احتفاله ببطش المعتمد البريطاني، وذلك إذ يقول:

كيفَ تشقى بحبّ حِلْمِي بلادٌ ... نحنُ أسيافُها وأنت المَضَاءُ؟

وهذه القصيدة، لا أقول إنها من فاخر شعر شوقى، ولكنها كانت بدءًا جديدًا أراد به هذا الفتى أن يجلو بالشعر تاريخ وطنه، وأن يذكر الناس بماضي أسلافهم وغابر مجدهم وقديم حضاراتهم؛ وهذا بلا ريب باب من أبواب الشعر الوطنى. بيد أن شوقى لم يوفق إلى حقيقة الشعر الوطنى فكانت قصيدته هذه سردًا للأحداث التاريخية في وادي النيل، وردًّا على بعض المطاعن، وسخرية من الغزاة الذين غزوا أرض مصر، حتى إذا ما بلغ عهد توفيق اختصره في الأبيات التي ذكرناها آنفًا، وأعرض عن التصريح بذكر الاحتلال ووقعه في نفسه، ولم ينبض حرف "واحد" من شعره هذا ببغض الغزاة الذين يسومون بلاده سوء العذاب، وهو حي يدرك ويحس ويسمع ويبصر.

فأي بلاء هذا؟ شاعران تفخر بهما مصر العربية والإسلام، يضل أحدهما ضلالا مبينًا كما ذكرنا، ويضل الآخر عن الطريق الذي مهده له الخديو بجرأته وقوة جنانه معرضًا عرشه للضياع! كان شوقى رجلا طموحًا إلى أشياء بعينها أخذت عليه المسالك: أن يكون "شاعر الأمير" وأن يظل "شاعر الأمير" وإن اختلفت الأمراء، فمن أجل ذلك تراه لا يزال يخشى أن تتغير الحال بعد قليل فتتغير حاله، فيؤثر أن يمسك لسانه ولا يسترسل مع أميره هذا الجرئ. وكان هذا أول الداء العياء، هو الخوف آفة الأحرار. ومن جراء هذا الخوف القابض على جَنَانِه حار هذا الفتى الشاعر فلم يستطع هو أيضًا أن يهتدى إلى حقيقة الشعر الوطنى الصحيح ولا إلى نهجه الحق. إن أصل الشعر الوطنى هو الحماسة، أي أن تكون ثائر النفس جياش الفؤاد، فتصب ثورة نفسك في بيان يتدفق في قلوب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015