هل استطاع حافظ أن ينهج شعرًا في الوطنية، وأن يتخذ له أسلوبًا غير أسلوب المناسبات، وغير ترديد أسماء الأمم والأعلام والرجال من العرب الأوائل والمحدثين ممن كان لهم أثر في وطنه الأصغر خاصة أو في وطنه الأكبر عامة. فلما لم نجد لهذا الرجل نهجًا، وأعجزنا أن نجد له إلا كل ما يجعله محالا عليه أن يهتدى إلى مثل النهج الذي نطلبه، آثرنا أن نغفل ذكر شيء من شعره الذي يخيل إلى السامع أنه شعر وطني.

* * *

أما شوقى فقد برئ من هذه الآفة التي لحقت شعر حافظ، إذ خلا شعره مما يقدح في وطنية الشاعر، ومن طعن على بلاده وأوطان قومه إلا أن تكون فلتة، ومن كل ملق لا خير فيه يتملق به الغزاة البريطانيين. وبذلك سلمت له نفسه، فهل استطاعت هذه النفس الشاعرة أن تلتمس نهجًا للشعر الوطنى؟ وما الذي وفقت إليه؟ وهل أتتنا بشعر حقيق بأن يسلك في عداد الشعر الوطنى كما ينبغي أن يكون؟

كتب شوقى أول شعره في نحو سنة 1888، أي بعد الاحتلال بست سنوات، وكان قد صار إلى ما كان يتمناه وهو أن يصير "شاعر الخديو صاحب المقام الأسمى في البلاد"، كما قال في مقدمة ديوانه الأول. وكان خديو مصر في ذلك الوقت هو محمد توفيق الذي تم في عهده احتلال وادي النيل بعد انهزام جيوش عرابي وإخوانه. فليس عجيبًا إذن أن لا تجد في شعره الذي قاله في عهد توفيق شيئًا فيه ذكر ما اعتلج في نفسه من أثر هذا الاحتلال المشؤوم الذي نكبت به مصر والسودان، وهو يومئذ في نحو الخامسة عشرة من عمره -أي أنه كان فتى يعقل ويدرك ويعرف معنى الاحتلال وكان أيضًا يحفظ الشعر ويطلبه ويتهيأ له كما قال في مقدمة ديوانه الأول. وسكوت شوقى هذا السكوت المريب عن أفظع بلوى منيت بها بلاده، لم يكن إلا أنه كان منذ أول عهده يسمو ببصره إلى أن يكون "شاعر الخديو صاحب المقام الأسمى في البلاد"، فحمله هذا المطمح النبيل على أن يخفي شعوره الوطنى كل الإخفاء، أو يغفله كل الإغفال، حتى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015