لا يعوقه ذلك عن بلوغ المرتبة السامية التي يصبو إليها. فلو هو تنفَّس عن شيء لجرّ ذلك عليه غضب الخديو توفيق الذي تم الاحتلال في عهده، ولكانت عاقبة ذلك أن يقصى عن القصر وعن الحضرة الخديوية الفخيمة لا محالة. وهذا الفعل من شوقى دليل على أن نفسه كانت تؤثر المنفعة الخاصة إيثارًا يصرفها عن الأهداف النبيلة في حياة أحرار الرجال. وهذا أول مغمز يخشى معه أن يضل هذا الفتى كما ضل حافظ من قبل عن الشعر الوطني الحق.

ثم قضى توفيق نحبه في 7 يناير سنة 1892، فانقضى بموته السبب الذي كان يمنع الشاعر الفتى أن ينفث خطرات نفسه ويبث قومه أشجانه. وولى الأمر بعد توفيق الخديو عباس الثاني في 8 يناير سنة 1892. وبدأ عباس، منذ عاد من فينا إلى مصر في 16 يناير من تلك السنة، يناوئ الإنجليز ويُصِرّ على أن يستَمسك بحقوق مصر وحقوق عرشه. وكان رئيس الوزراء يومئذ هو وزير الاحتلال المشهور مصطفى فهمي باشا، فظل يعمل جاهدًا على نزع السلطان كله من يد الخديو الشاب، ووضعه في يد المعتمد البريطاني اللورد كرومر، ومضى عام، فإذا الخديو الشاب يرسل إلى مصطفى فهمي كتابًا يقيله من رئاسة الوزارة دون أن يستشير كرومر أو يطلعه على ما نواه، وذلك في 15 يناير سنة 1893. فلما بلغ الخبر كرومر استشاط غضبًا وجن جنونه وثار ثورة بريطانية، فأسرع إلى الخديو وقابله، وأصرّ على عودة وزير الاحتلال، فأصر الخديو على أن اختيار الوزراء حق من حقوقه الشرعية لا يجوز لكائن من كان أن ينازعه فيه. فأخذ كرومر يتوعده وينذره ويهدده، ولكن الخديو الشاب بقى كالطود الراسخ لا يتزلزل ولا يهاب وعيدَه ولا نُذُرَه. هكذا فعل كرومر، أما الشعب المصري فقد انبعث انبعاثًا جديدًا كان فاتحة الحركة الوطنية الخالدة في تاريخ مصر، وكان هذا الشعب يبغض مصطفى فهمي وزير الاحتلال بغضًا ليس بعده ولا قبله، ولكنه كان يطوى جوانحه على هذا البغض، فلما انتهى إليه خبر إقالته، وخبر هذه الجرأة الصريحة على كرومر الجبار المخوف، ابتهج ابتهاجًا عظيما، ولم يلبث أن سارت وفود الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى الموظفين والقضاة، ويمموا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015