لمحتُ من مصرَ ذاكَ التاجَ والقمرَا ... فقلتُ للشعر هذا اليوم من شعرَا

يا دولةً فوق أعلامٍ لها أسدٌ ... تَخْشَى بوادرَهُ الدُّنيا إذا زأرَا

في كلام كثير هو على غثاثته مدخول مرذول، فأي رجل هذا الذي يقول لأبناء أمته إن الدولة المحتلة لبلادكم دولة ذات بأس تخشاه الدنيا؟ وأي تثبيط هذا؟ وما الذي دفع هذا الرجل إلى أن يقول ما قال ثم يشفعه بما هو أرذل منه وأشد تثبيطًا، إذ يقول لبريطانيا:

منْ ذا يُنَاوِيكِ والأقدارُ جاريةٌ ... بما تشائين، والدُّنيا لمن قهرَا

إذا ابتسمتِ لنا، فالدهرُ مبتسمٌ ... وإن كشرتِ لنا عن نابِهِ كشرَا

ألستَ خليقًا أن تقول كما قال القائل الأول: "لا والله لا يخرج هذا الكلام من قلب سليم أبدًا"؟

ثم ندع شيئًا كثيرًا من أمثال هذا وننظر، فإذا يوم "مشئوم" آخر في تاريخ مصر يفجع الشعب المصري كله، وتتسامع به الدنيا وتقشعر له الأبدان، حتى أبدان الإنجليز أنفسهم، لشناعته وشناعة آثاره، هو يوم دنشواى الذي لم يشهد العالم يومًا أفظع منه وحشية ولا اعتداء على الإنسانية. وكانت هذه الحادثة خليقة أن تنشيء رجلا لم يقل الشعر قط فيكون شاعرًا يملأ رحاب الدنيا تفجعًا ونداء وتحريضًا على تقويض دعائم البغي والطغيان، أما إذا كان الرجل شاعرًا وطنيًا، فكانت حقيقة بأن تبعثه بعثا جديدًا فيجرِّد شعره للحرية والجهاد والمصابرة على البأساءِ والضراء، حتى يوقظ نيام قومه من غَفَلاتهم، وينفض المخاوف عن قلوبهم، ويجيش هممهم للصِّراع الذي لا تنطفيء له جمرة أو تنطفيء جذوة الحياة في أبدانهم، ولقد وقعت هذه الكارثة في 13 يونية 1906، وحافظ يومئذ في الخامسة والثلاثين من عمره، أي في فَوْرة الشباب والعزم والقوة، ودوى صوت مصطفى كامل كأنه الرعود القاصفة في السحاب العرَّاض في الليلة المظلمة، فماذا كان من أمر هذا الفتى الشاعر الوطني؟ إنه استفتح قصيدته بهذه الكلمات الرقيقة وبهذه السخرية اللطيفة التي يقول فيها (2: 20):

أيها القائمون بالأمر فينا ... هل نسيتمْ ولاءَنَا والودادَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015