"وينبغي لمن كتب. . . أن يعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعترى المؤدِّب عند ضربه وعقابه. فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة! ! لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع، فأراه السكون أن الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرك دمه، فأشاع فيه الحرارة فزاد في غضبه، فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم. فما أكثر ما يبتدئ الكاتب وهو يريد مقدار سطرين، فيكتب عشرة".
وإني والله لأعزم وأهم وأثور وتغلى المعاني في نفسي، وأحمل القلم، وآخذ مجلس الكتابة، أعد العدة، وأريد مائة سطر، فما أجاوز سطرا أو سطرين، ثم كأن القلم قد اعْتُقِل (?)، وكأن الفكر قد بطل، وكأن الذي قد كان لم يكن!
فنظر أبو عثمان، وإن الضحك لفي عينيه، ثم قال:
من زمنك أتيت -يا بني! أنكم لتعيشون -أيها الكتاب- في زمان غير زمانكم، وأن أحدكم ليحمل من قلمه عبئًا ثقيلًا، كعبء من وقع في الصحراء يضرب في أرجائها، وما يحمل فيما يحمل إلا ثيابا وزينة ومتاعا وفنونا من الحضارة. وهو كان أحوج إلى زاد يزوده، إلى تمرات في جراب وماء في إداوة (?)، وعصا يستعين بها على بعض أمره.
إنكم لفي زمن أهون شيء عليه القلم، وإن الصباح ليخرج عليكم من جنبات الأفق بشهوات كثيرة تجعل الحياة عندكم عملا في استخراج أسباب المتاع باستخراج الدينار والدرهم، وإن الليل ليظل عليكم بشهوات أخرى تجعل الحياة إفناء لعمل النهار، فإذا كان نهاركم إحياء الدينار والدرهم، وليلكم إفناء الدينار والدرهم، فأين تجد يا بني عمل القلم؟ وأين تجد من يبالى بعمل القلم؟
إذا أردت -يا بني- أن تعيش بقلمك في زمانك هذا، فاحمله حين تكتب