انغمسن في لج البحر إلا ما عفا (?) البحر عنه من إهابهن الرقيق المضئ المتبلج .. أيتها النجوم السعيدة الضاحكة أبدًا! حدثينى بأفكارك الجميلة المتجددة! إنك منذ الزمن القديم، وأنت أبدًا تنظرين إلى الأجيال وهي تموج في أشعتك على هذه الأرض في تيار القضاء والقدر، منذ الأزل البعيد والدنيا تتفانى تحت نظراتك الهادئة الساخرة .. أف لك يا أبا عثمان! لماذا وضعت الأحمق المرزوق -هذا الرجل الكامل- بيني وبين هذا الجمال العتيق الذي يروى لعيني لمحات الإشراق الإلهي عن أقصى الأجيال الفانية الغابرة؟
وجعلت قصة أبي عثمان عن الأعرابي تنتشر في نفسي، وتتسرب في سراديب عميقة تحت الظاهر الإنساني المتجسد، وطفقت تأخذ في كل سرداب معنى جديدا، أو تثير معنى قديما، أو تدفع معنى ساكنا، حتى وجدت في أفكارى سطوة البعثرة التي تنفض النفس وتطيرها في وجوه كثيرة. لقد خرجت هذه القصة من معناها إلى معان أخرى كثيرة تتعادى وتتطارد وتغيب في كلمات الفكر البعيد. . . وأجهدنى ذلك إلى أن سبحت الروح في لجة الليل، واستيقظت الأحلام.
وحضرنى أبو عثمان، فجاء من بعيد ضاحكا متسرعا نافضًا، وهو يعب عباب الحر، حتى دنا ثم سلم وجلس وأقبلت عليه بين يديه، فبدأت أستمع إليه وهو يروى ويقص وينشد، ويخرج من باب داخلا في باب، وهو خلال ذلك يتنادر على شيوخه وأصحابه ومريديه، ويحدث بكل غريبة وعجيبة ونادرة عن الأوائل وعن رجال العصر، ويروى من طرف الأخبار ما لم أسمع به ولا وقفت عليه .. حتى إذا هدأ قلت: يرحمك الله يا أبا عثمان! إني والله لفي تعب من طول ما أرحت نفسي وأرحت القلم: وما بدأت أكتب إلا وجدتني كالمغشى عليه من فرط ما يتوقف القلم، وإن في النفس من الحديث ما يعيى القلم بقليله فضلا عن كثيره، وإنك لتقول في بعض كتابك: