وأضأت مصباحي وبدأت الجزء أقرؤه حتى شغلنى عن أحاديث نفسي، وردنى إلى شيخى أطوع ما كنت له، وأعقل ما كنت عن بيانه .. كل هذا جيد يا أبا عثمان، ونعم صاحب الرأي كنت! وإنك والله ما تخلو -أيها الشيخ- من لسان ناطق مبين متدفق حتى حين تكتب، فما أقرأ لك إلا رأيتنى أجد الألفاظ تنفذ عن بصري إلى نفسي إلى عقلي إلى أوهامى التي أسمع دبدبة صوتك المتكلم في جوف دمى. ما أنت يا -أبا عثمان- إلا رجل محدث منطلق فياض اللسان، خفيف الروح، قليل البطء فيما تحاوله وما أظنك تكتب شيئا كما يكتب سائر من يتعاطى الكتابة ويعمل لها ويتحامل عليها، وما أحسبك إلا كنت مغلوبا على قلمك، قد غلب اللسان المتكلم فن القلم الصامت. هذه حروف كتابك تتردد على بياض الورق وكأن ترددها صدى صوت يتذبذب في جو الهواء. . . هكذا كنت أقول كلما وقفت على جملة من الكتاب أسكن عندها سكون المتأمل.
وقطعت الكتاب حتى أفضيت إلى هذه الحكاية. . . قال أبو عثمان: قال الأصمعي: قال رجل لأعرابي: كيف فلان فيكم؟ قال: مرزوق أحمق! قال: هذا والله الرجل الكامل!
ألقيت الكتاب، وجعلت أسمع إلى أبي عثمان وهو يردد: "هذا والله الرجل الكامل"! أجل إن الحماقة المرزوقة من جهود العقل ومتاعبه وعبقريته وتفانيه هي التي تعيش في الناس ظاهرة حاكمة غالبة مستولية على الأمد في السلطان والحكم والسيادة، وإنك لترى الرجل أو المرأة وما لهما من فضل إلا الغني، وأنهما على ذلك لأهل كل جميل وإنهما لغاية كل طامح، وأنهما لَلْقوة الكاملة التي تفيض على ما يطيف بهما روعة وجلالا. . .
استبدت بي الرغبة، وألحت إلحاح العناد، أن آوى إلى سريرى بعد وَهْدَة. فأطفأت المصباح، وجعلت أتقلب قليلا قليلا، وأنى لأرى هذه النجوم في جوف السماء زاهرات مضيئات متلألئات، كأنهن عذارى ألقين زينتهن على الشاطئ ثم