بالفطرة الصادقة الهادية إلى معان وأسرار لا يصل إليها إلا من استقل بمثل هذا المذهب الذي يبدأ بصحيح العلم وينتهي بصادق الخيال.

وقد كان القدماء من شيوخنا يدركون ذلك، ويفصلون بين الطبع والطبع والسليقة والسليقة، وقد جهدوا أن يضعوا فاصلا يبين الحد بين الطبع الجيد والطبع الردئ، ولكن ذلك مما لا يرام البلوغ إليه في تحديد هذه الطبائع التي لا تخضع لسلطان علمي متميز بحد وقوة. فانظر مثلا إلى قول القاضي أبي الحسن الجرجانى في كتاب الوساطة بين المتنبى وخصومه: "وملاك الأمر في هذا الباب خاصة، ترك التكلّف، ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به، ولست أعنى بهذا كل طبع، بل المهذب الذي صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، وألهم الفصل بين الردئ والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح"، انظر إلى قول القاضي وتأمله تجده قد رام البيان عن حقيقة الطبع الذي يستقل بمذاهب الأدب ويقوم عليها، ولكنه وقع دون الغرض. قال عن الطبع: "تصور أمثلة الحسن والقبح". والتصور في هذا لا يكفي ولا يؤدي بالأديب إلى غاية كالغاية التي نريدها نحن؟

نعم إن التصور شرط في كل شيء من الأدب، ولكن الإحساس بالقبح والحسن هو الأصل الذي لا أصل غيره في الأدب جميعه شعره ونثره، والإحساس المتلقى وحده لا يكفي أيضا، بل هو الإحساس الذي يتلقى فيثور فيندفع فينفذ كما ينفذ السهم أو كما يغيب الشعاع في ظلمة المعاني ليضئ للأديب والشاعر ما يستبهم على غيره وينغلق.

وأما قوله عن الطبع أيضا: "وألهم الفصل بين الردئ والجيد" فهو كلام جليل دقيق موجز، فإن الإلهام -هذا المعنى المبهم الذي نحس به وبآثاره ولا نستطيع أن نعرفه أو نحدده- هو الأصل العظيم الذي يردف العقل، ويغذى الخيال، ويشحذ الحس، ويهدى في الظلمات الجاثمة على المعاني والأفكار، وإذا استطاع الأديب أن يتنبه إلى آثار الإلهام فيما يفكر فيه، وفيما يكتب وفيما يقول، واستطاع أن يجعل لعقله وفكره وبعض خياله نظاما يسترشد في وضعه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015