وتدبيره بهداية هذا الإلهام وتعرف آثاره في إنتاجه، فعندئذ تستقم له الطريقة وتنثال عليه الآراء والمعاني، ويدخل في الأسرار ويخرج على يسر وفي لين وبخفة، وهذا هو قول القاضي الجرجانى فيما سلف من كلامه:

"وملاك الأمر في هذا الباب خاصة ترك التكلف ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به".

ولولا أن القاضي لم يأخذ هذا الأمر من بدئه بل أمسك بذنبه وجرى وراء الذنب، لكان وضع عبارته على التقديم والتأخير كما فعلنا نحن في شرح هذه العبارة. فإن تَرْكَ التعمل ورفْضَ التكلف والاسترسال وتجنُّبَ الحمل على الطبع هي النتيجة التي يبدأ عمل الأديب من بعدها فأين المقدمة التي تتقدم به في هذا الطريق؟ وكيف يستطيع أن يكون كذلك؟

نعم، فليس كل من ترك التعمل ورفض التكلف وتجنب الحمل على الطبع والعنف به ثم استرسل -بمستطيع أن يكون أديبًا أو شاعرًا، لأن هذه ليست أداة ولا شبه أداة بل هي نتيجة طبيعية لشيء آخر فإن الإحساس المشبوب النافذ الحذر الذي يصيد معانيه من كل ما يتناوله بالسمع أو بالبصر أو بالفكر أو بالخيال ثم هداية الإلهام الحر الذي يستقل بأدب الأديب، هما اللذان ينتجان ما ينتجان، فإن الأديب إذا خلص له هذا كله لم يكن له بد من ترك التعمل ورفض التكلف والاسترسال.

وإنما يتعمل الأديب ويتكلف في أول الطلب، وفي بدء ممارسته للفن الأدبى الذي يريده، ويكون هذا التكلف والتعمل شحذا لحده، وصقلا لمرآته، وجلاء لروحه، وما هو إلا القليل حتى ينطلق من هذه القيود الأولى، ويتحرر من رق الرغبة، ومن عبودية التقليد والمحاكاة. فإذا انطلق الأديب وتحرر تصرف في أغراضه كلها على هوادة ورفق كأيسر ما يكون التصرف وأسهله وأنعمه وأرقه.

فلينظر طالب الأدب أول ما ينظر إلى هذه الاُصول التي رتبناها، وليحاسب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015