فالآن قد امتلأت دنيا الناس بأسباب اجتماعية طاغية، وتبعثرت حقائق الوجود في كل علم وفن على وجوه من الاختصاص، وتكشفت أسرار كثيرة لا يحيط بها إلا من حمل نفسه حملا على متابعة الدراسة، وطول الروية، ومعالجة الفكر وحذر الغريزة، وتوقد الفطنة. ثم لا يخلى نفسه مع ذلك من الحرص على نفسه وإحساسه وطبعه أن ينفذ إليه ما يفسده من جميع هذه الدراسات الكثيرة والتأملات الطويلة.

ومن هنا أيضا تستطيع أن تعرف مقدار ما في قول ابن خلدون من الخطأ إذ قال فيما نقلناه لك آنفا في المقالة الماضية "فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها". فاسأل ابن خلدون ما جدوى أن يفهم الأديب اصطلاحات العلوم؟ وإنما الاصطلاح حرف من الكلام مقيد معناه بالعلم الذي اتخذ له واصطلح عليه فيه، فإذا عرفه الأديب فهو بين اثنتين، إما أن يعرف اللفظ ليعرف معناه ويكون قائما على فهمه من حيث هو حروف مركبة وهذا شيء لا قيمة له -إذ كان الأديب لا يحتاج إليه ما لم يكن من أهل هذا العلم الذي وضع له الاصطلاح، أو أن يعرف ذلك ويقوم على فهمه ليستطيع أن يتعلم من هذا العلم، وينفذ في معاني أصحابه التي يقصدونها في علمهم هذا. فإذا فعل وتعلم وقرأ لهم وفهم عنهم، فهو لا ينتفع بهذا العلم إلا إذا اتخذه مادة تمد أدبه وتغذيه.

أما إذا تعلم هذا العلم ليفهمه على طريقة أصحاب هذا العلم وقيودهم التي قيدوه بها فهو باطل من حيث كان لا ينفعه فيما أراده من الأدب.

وإذن فطريقة الأديب في قراءة العلم هي طريقة امتياز، على أصحاب العلم نفسه، لأنها طريقة استيعاب لما وصلوا إليه من حقائقه وأسراره، ثم تزيد على ذلك فطنة الأديب وبصره وإحساسه وقوة إدراكه للمعاني البعيدة التي تفضى إليها هذه الحقائق وهذه الأسرار، ثم قدرة الخيال على التطرح والتسامى، والتغلغل والنفوذ إلى أعماق مبهمة، حيث يستطيع أن يعقد المقارنة ويقيم المشابهة ويجمع هذا إلى ذاك، ويفرق بُعْدًا شيئين يتلازمان في بعض وجوه النظر وكذلك يهتدى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015