وتستعظم الجديد لجدته، على غرور واندفاع وتهور، حتى تحطمت كل الموازين في أيدى أصحابها، ولم يبق للناس ميزان يعرفون به ما في الكلام من الصدق والجمال، وما فيه من الكذب والغش، وهما أقبح القبح، وهما الدمامة المتبرجة في زينة "المكياج" اللفظى لا في زينة الحق والعدل، فإن القبيح ربما حسن إذا عرف الإنسان سر القبح الذي فيه، ومن استطاع أن يعرف سر القبح فاشمأز منه، فهو خليق أن يعرف سر الجمال فيهتز له.

وحركة النفس بالاشمئزاز والاهتزاز هي أصل الأدب -إذا ما نشأت عن الإدراك أو النفوذ إلى الإحساس بالسر الذي يكون به القبيح قبيحًا والجميل جميلا. فإذا تتام هذا الإدراك وهذا النفوذ وعملا في كشف الحجب عن هذه الأسرار على نظام وتدبير وتساوق واطراد فذلك هو طريق الأدب. فإذا خلص للأديب مذهبه في تناول هذه الأسرار على طريقته وبأسلوبه، واهتز إحساسه بالمعاني اهتزازًا قويا متجاوبا بأنغامه التي يتردد صداها في كهوف النفس فتتابعت هذه الأنغام معبرة عن خواطر العقل والقلب والنفس والروح وآلامها وأفراحها وأحزانها ولذاتها، وظنونها وحقائقها، وأوهامها ويقينها، فذلك هو حقيقة الأدب. فإذا استطاع الأديب أن يصور هذه كلها بألفاظه ولغته وعبارته وأسلوبه الذي يحمل صور هذه الاهتزازات، ويحمل أنغامها في جرس الكلام، فذلك هو الأدب الذي ينسب إليه ويتميز به فيقال مذهب فلان وطريقة فلان وأسلوب فلان. . .

والوصول إلى هذه الغاية من الأدب ليست عملا سهلا يكون قصده هو بلوغه كلا، فإن الفطرة وحدها أو الطبع الفطري وحده لا يكاد يصل إلى ذلك في مثل زماننا هذا. بل هو كان يصل إلى غايته في العصور الأولى قبل أن يتكاثر الأدب ويتشقق الكلام، وتستقل الطرائق للناس بعد الناس من الأدباء.

وقد كان الطبع قديمًا كافيا لتساوى من يتعاطى الأدب في السليقة وفي بعض العلم وفي أكثر المعرفة، ولأنهم إنما كانوا يتناولون من أغراض القول على طريقة محدودة بطبيعة الاجتماع الذي لم يكن قد تراحب مثل التراحب الذي بلغه في زماننا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015