هؤلاءِ المتكلمين في القضاءِ والقدر، وما يتنازعون فيه من الشر الذي يقع في هذا العالم، أهو مُرادٌ من الله تعالى أم غير مرادٍ؟ ويعجبهُ أن يذهب إلى أن الشرّ ليس مرادًا لله تعالى، وأن إرادته لا تتعلق إلّا بالخير، وأن الناس وما سواهم هم الذين تتعلق بالشر إرادتهم. فكان له في هذه المجالس شغل عما يتردد بين جنبيه من وساوس مى وبلبالها، وأخذت تهدأ على الأيام حدّة ما يجد من ذكرها، ويذهب عنهُ عناءُ ما يلقي من خيالها. وكان كل ذلك يرقق من قسوة البادية التي نشأ فيها، ويلين من جفائها وغلطتها، ويمهد لسماحة أهل الحضر ورقتهم وظرفهم ومباذلهم طريقًا في نفسه، يهديها إلى السمت النبيل المتواضع الذي درب عليهِ الناس ممن يعاشرهم في هذه المدينة.
وأنس به أهل الحاضرة -"البصرة"-، فكان لبلاغة منطقه، وحسن تَهَدِّيه إلى غاية القول، وصدق عبارته عما في نفسه، وقوة بيانه البدوي عن المعاني التي يبتذلها أهل الحضر بإهمالهم، وسرعة بديهته فيما يعرض له، وقدرتهُ على تخيل الأشياء بذلك الفكر البدوي المحض، وإرساله في الكلام شعاعًا من الفطرة السليمة التي لم تفسد على الترف والعبث والمخالطة، كل ذلك جعل أهل البصرة -من عرفه منهم- يحبه ويستدنيه ويتحفَّى له، حتى صار يدعى إلى أعراسهم وأفراحهم وملاهيهم، ليسمعوا من حلو حديثه البدوي صفةَ هذه الأشياء التي لا عهد لأحد من أهل البادية بها. فكان ذلك سببًا في أن يقال عنه -بعد أن طار اسمه في الآفاق: - هذا الشاعر البدوي! ! تالله لقد كنا نراه بالبصرة طفيليًّا يتدَّسس الى العرساتِ! !
وشغله المربد عن شعراء البادية الذين كان يألفهم ويروى شعرهم، وجعل يسمع مناقضات جرير والفرزدق والأخطل، ويحفظ ما يرد على المربد من شعراء الحجاز، ولكنه لا يجد عند أحد من هؤلاء ما وجد عند "الراعى النميرى": مِن نَفَس رابٍ كأنما يقذفهُ مرجل أوقدت عليهِ نار لا يخبو لها سعير. فهذا القلق الذي استولى على رأيه في الشعر، وهذا السأم الذي استبدَّ بعزمه في الحياة، وهذه اللوعة التي اعتسفت قلبه في الحب، كل أولئك كان يُعِدُّ هذا اللسان الشاعر