إعدادًا جديدًا لتنطق البادية العاشقة على عَذَباته (?) أجمل بيان وأعنفه، وأروع نجوى وأحلاها، وأدق نعت وأشكله. فكانت أيامه بالبصرة تدريبًا لابد منهُ لهذه النفس البدوية المفطورة على جانب من الخشونة والجفاء.
ومضى العام عليهِ بالبصرة، فاجتوى ريح الحاضرة من طول ما أقام بها، فآثر أن يعود إلى ديار قومه بالبادية ليتنسَّم تلك الرُّوَيحة الحبيبة إلى القلب البدوي، وليستروح نسمات ميّ إن أطاق أن يكفكف من كبرياء نفس ثائرة متمردة عنيفة في أصل جبلّتها. والبادية هي البادية قلَّ أن تتغير لها صورة أو يجدّ لها جديد، فنزل على إلْفٍ قديم حبيب، تتلقاه أمهُ رفيقة به على عاداتها، ويسائله إخوتهُ ولِداتُه عن أمر الحاضرة كيف وجدها، وما لقى فيها، وما الذي أحبَّ منها وكره، وكيف ترك ابن عمه "أوفي"، وقد زعموه تحضَّر وأخذ من علم الحاضرة، يسمع في مساجدها عن شيوخ الحديث حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فينبئهم بأخباره، وأنَّ أوْفَى قد ترك البصرة في طلب حديث نافع مولى ابن عمر، فلم يلقه بها. ويحدِّثهم أنهُ لقى أُمَّ الصهباء معاذةَ بنت عبد الله العدوية العابدة، وما يتناقل الناس من أخبار عبادتها وتقواها.
ويقيم ما يقيم، ثم يعزم على أخيه مسعود في الرُّفقة حتى يزور ميًّا، ليتزود منها نظرةً لعلها تردّ من صدره هذه البلابل التي نشأت توسوس له أن قد أصابها مكروه. وينهاه مسعود أن يُتْبع نفسه هذه الفتاة التي عنَّتْهُ وأنهكتهُ وشغلت عقله عن أمر دينه ودنياه، وقبيح بالرجل أن يلجَّ على من أعرض أو نأى عنه بجانبه، والنساءُ بالنساءِ أشبه من الغمامة بالغمامة، فما هذا العناء الذي يفنى فيهِ أيامه ولياليه؟ ثم يرى مسعود في سُكات أخيهِ أنينًا يلتجُّ تحت الهدأة، وينظر في عينيه إطراقةً تستصرخ غوث الرحمة، فيأوى (?) لذلك الشبح المستكين وراءَ هذه التجاليد الصامتة المستحصدة، ويشفق عليه أن تنتهب حياته هذه الأشواق التي تتنازعه من كل مغيب عاطفة أو صبابة. "لك ما شئت يا غيلان، فأنت والرحيل