ما لم يجتمع في مثلها من قديم أيام العرب، فقامت فيها سوق من أعظم أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، تضَارع سوق عكاظ منتدى الشعراء من أهل الجاهلية، وهي "المرْبدُ": مِربد البصرة، حيث يجتمع العلماء والكتاب والشعراء يكتبون وينشدون ويتفاخرون ويتهاجون. وأقبل ذو الرُّمة -هذا البدويّ الراجز- يسمع إلى الرجز والشعر الحديث. فلما سمع من رَجز العجاج ورجز ولده رؤبة علم أنهُ إذا ألحَّ على الرجز لم يقع من هذين الفحلين موقعًا، ورأى أنهُ إذا بقي عليه يقوله، عرَّه ما يقول، فعزم أن يصرف نفسه عنه ويعوّل على الشعر وحده. وكان ما يسمعهُ من الشعر في هذه السوق العظيمة قد هاج في نفسه الرغبة في المنافسة، إذ كان الشعر أسهل مأتًى، وأوسع مجالًا، وأدنى إلى القدرة على الإجادة، وأولى أن يكون تصريفُ القول فيه أحسن وأنبل، وأن الرجز لا يطيق ما يطيقه الشعر من المعاني. وكانت نفسه إذ ذاك تتحرك مغاضبةً إلى ميّ، وترقُّ لها، وتريد متنفسًا تَبُثُّ فيهِ لوعتها وأشواقها، والرجز لا يستوى على إرادتها، وقلَّ في العشاق من الشعراء من رَجَزَ بحبه. وكذلك بدأت نفسه تستقبل الشعر وحده، وتدع الرجز لهؤلاءٍ البداة الغلاظ الأكباد يقولون في أغراضه ما يقولون.
ولا يكاد يشك في أن الشهور التي يقضيها ذو الرمة بمدينة العلم والشعر والحضارة، قد جعلت تهزُّ نفسه هزًّا عنيفًا متتابعًا لا هوادة فيه، وأن شدَّة ما لقى من الغربة في هذه البيئة الجديدة التي لا عَهْد له بمثلها، قد أحدثت له فترةً وانكسارًا، وكادت تذهب به في الخمول مذاهبها. ولكن العاطفة المحنقة التي تجيش بين جنبيهِ كانت توجه هذه النفس إلى الغاية التي أعدت لها. وكذلك بقي ذو الرمة حائرًا لا يدرى كيف يتوجه بالرأي والعزيمة، فهو يدخل حوانيت البقالين يبقى فيها يسمع من لغو أهل الحضر ما يسمع، ثم ينصرف إلى المساجد وقد تحلَّق الناس على علمائهم يسمع من هؤلاء وهؤلاءِ، ويتلقف الكلمة بعد الكلمة مما يدرك من جدَ لهم وأحاديثهم. ثم يفكر في ذلك ما شاءَ الله، لم يأخذ نفسه بالدّربة على شيءٍ مما يتعلمون أو يتناقلون. وكان أكبر ما شغل عليهِ خواطره قول