إخوته يستخبرون خبره، ويسألونهُ عن ميّ من تكون؟ وجعلتْ نفس "غيلانَ" تعتاص على الناسِ، فردَّ السائل بخَيْبته، وائتمن عليها أخاه مسعودًا فهو أحق الناس بالأمانة: إذ كان عونًا لهُ في سفره، وصديقًا قد اقتربَ ما بينهُ وبينه، ولم تَعُد للسنِّ قدرةٌ على التفريق بينهما في المودَّة النامية المتوثّقة.
ولم ينشب هذا الشعر وما سواه أن تدفَّقَ إلى ديار بني مِنْقر من كل وجه ومكانٍ، وعرفَت العجوز وعرفت ميٌّ أنهُ يريدُها، وأن الأمر قد استَعْصى، وأن الحزمَ أن يُبتَّ الرأيُ تبل أن تذهبَ ساعته ورأتِ العجوز أن تقطع هذا اللسان المتقحّم باليأس، فإذا ملكه اليأس غلبهُ العيّ والحصر، وانتهى أمرهُ -كما ينتهي أمر كثير سواه من نوابت الشعراء- إلى لجاجة ثم فترة ثم سكون. فدسَّت العجوز إلى فتى من بني مِنْقر يقال له "عاصم" دسيسًا يرغبهُ في ميٍّ، ويُسَنِّى له من أمرها ما قد يتعسَّر عليه، ويكفل له رضاها أن تكون له زوجًا. فسعى "عاصم" إلى العجوز سعى الملهوف، وجعل يماسحها ويعرّض لها بخطبة ابنتها حتى صرّح، فرضيتهُ لابنتها، ليكون عاصمًا لها من لسان هذا المتجريء الباغي إليها الفضيحة والعار. واستشيرت ميّ في أمرها فقبلت، وتم الرأي على أن يبنى بها حين يشاءُ، فسارع عاصم وقضي الأمر.
أما ذو الرّمة فقد رجع إلى دياره، ثم أوفض منها إلى البصرة نافرًا عجلًا يريد أن يقضى فيها عامهِ هذا حتى يصيب من الذكر بين أئمة العلماءِ وفحول الشعراء، ما يردُّ عليهِ راحةً قد استلبتها هذه الفتاة الطاغية التي أحبها ذاكرًا مردّدًا راغبًا، فكان جزاؤه منها أن اقتحمته وأسقطتهُ، ولم تعرف له حقًّا يذكر أو هوًى يكون منها على بال. ونزل هذا البدويّ مدينةَ الحضر، فجعل يتلفت ههنا وههنا، فلا يجد إلفًا يألفه إلّا شذّاذ القبائل الذين نزلوا "البصرة"، وخلطوا أنفسهم بالتجار وأوشاب أهل الأسواق، وجعل يتسكع معهم حائرًا بين حوانيت البقالين وأشباههم، قد فترت همته عما كان خرج له من بلاده.
وكانت البصرة تموج بالناس من نواحيها، واجتمع فيها من العلماء والشعراء