ويعود ذو الرُّمة إلى دياره غضبانَ أسِفًا، ولكنهُ قد عزم وصمم. فستكون له مى عرفتهُ أو أنكرتهُ، وسيهدى إليها بشعر يضئ لعينيها طريق قلبها رضيتهُ أو كرهتهُ، وسيقذف على ألسنة الرواة، من شعره الذي يذكرها فيهِ حتى تتلقف الآذان اسمها فتطلع إليها وإلى أخباره وأخبارها، فلا يلبث من فوره أن ينشد الناس في الأندية ذلك الرجز الذي ذكرناه آنفًا: "هل تعرف المنزل بالوحيد؟ "، ثم يُرْدِف إليها ذلك الرجز الآخر الذي يقول في أولهِ:
"قِفا نُحَيِّى العرصاتِ الهُمَّدا ... والنؤْىَ، والرميمَ، والمُسْتَوْقَدا" (?)
والسفعَ -في آياتهنَّ- الخُلَّدا" (?)
والذي جعل يتكذب فيهِ بما لم يكن وما لم يرَ من مىّ ومن صواحبات لها، فيقول يذكرها ويذكرهنَّ، وأن الديار ورسومها قد هاجت كمده:
"أَوْلَى -لمَن هاجت له- أن يَكْمَدا ... أَوْلَى، وإن كانتْ خلاءً بعَّدا" (?)
"وقد أرى والعيش غير أنكدا ... ميًّا بها، والخَفِراتِ الخُرَّدا" (?)
"غرَّ الثنايا يستبينَ الأَمْردَا ... والأَشْمَطَ الرأس وإن تجلَّدَا" (?)
"قواتلَ الشَّرْقَ قتيلًا مُقْصَدا ... إذا مشينَ مِشْيَةً تَأَوُّدا" (?)
هزَّ القَنا لانَ وما تَخَضَّدَا ... يركضنَ رَيْطَ اليَمَنِ المُعَضَّدا" (?)
وسالت أودية بني عدي بهذا الشاعر الذي نبغ بينهم، وتناقلوا ما أنشدهم، وتساءل القوم: ما "ميّ" هذه التي يذكرها؟ وكل امرئ يخشى أن تصيبه معرَّة هذا اللسان العاشق حين يتولج إلى حرمه بالصبابة والوجد. وأقبل على "غيلان"