ويلمحها متجرّدة متكشفة ليس بينها وبين عينيه إلّا الهوى ومهالكهُ. لقد ارتدّت هذه اللمحة إلى قلبه حريقًا يتسعر حتى أتلفت كل ماضيه، أنهُ رجلٌ ليس له ذكرى إلّا ذكرى واحدة سوف تعرض لهُ مع كل مشرقٍ ومغيبٍ، فلا يذكر من مواضى أيامه إلّا ما رأى في يومه هذا. . . فتنة وغرامًا وتعذيبًا لا تنتهي غوائلهُ. يمضي على وجهه كالهارب من لذْع ما يجد، ولكنهُ لا يلبث أن يعود لينظر النظرة الأخرى، فلا يجدها إلَّا قد لبست ثيابها وجلست إلى أمها تحدثها على باب الخباءِ. ويذهب ويجئُ في تحرُّقه، فتسوّل لهُ نفسهُ أن يقبل على مىٍّ وأمها ليسمع حديثها من قريب، فيدَّعى لهما أنهُ أضلَّ بعيره فهو ينشده، فما يروعه إلّا أن تدعوه العجوز فيدنو ويجلس إليهما، وجعلتا تناقلانه الحديث سرْدًا واحدًا لا تسألانهِ ولا تستخبرانه عن شيء من أمره. أغفلتهُ الفتاة وجهلتهُ أمها، كأنْ لم ترياه من قبل. أهكذا تقتحمُ "غيلانَ" عيونُ الناس فلا تأبه له ولا تبالى بهِ؟ فيتربَّد وجههُ، وتختلج شفتاه، وينطلق مسلمًا مودّعًا ثائرًا كأنما نهشتهُ في مجلسهِ حيةٌ أو أطارتهُ جِنَّةٌ عن حلمِه، وينصرفُ أشد ما كان يأسًا ووجدًا وهيامًا. تعجبُ مى لما ترى مما غفلت العجوز عنهُ. إنه ينظر إليها بعينين ترى في شعاعهما لهبًا، وفي وقعهما لذعًا، وفي تتابعهما معمعة تتكلم كلامها ولا تبينُ. وتلتفت ميّ إلى عجوزها وتقول: أمَّاه! تالله أنه للفتى العدوىُّ الذي دخل علينا حِواءنا عام أول يستسقى! ! إنه لهو ذو الرُّمة قد ثاب إلينا! وكأني يا أماه قد قرأت في عينيه أنهُ اطلع عليّ آنفًا فرآنى متجردة من حيث لا أرى ولا أشعر! ! اذهبي يا أماه فقصِّى أثره من حيث لا يراك ..
وتعجل أمها وراءه وقد ذكرته وعرفته، وتعود إليها تقول: أرأيت يا ميّ؟ إنه والله لهو ذو الرمة! لقد أخذته عيني من قريب وهو لا يرانى، ولقد رأيته يتردد آنفًا أكئر من ثلاثين طرفة، كل ذلك يدنو فيطلع إليك ثم يرجع على عقبيه، ثم يعود. وإني لأخاف عليك بعد اليوم يا بنيَّتى، فقد وقعتِ في لسان شاعر فيما أرى، وما أنسى ما حييتُ ما قال لي فيك: أما والله ليطولنَّ هيامى بها! اللهمَّ إنا لا نسألك ردَّ القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه!