والحضر صدى خطواته نغمًا حلوًا ينساب فيأخذ كل سمع ويستميل إلى شجوه كل جنانٍ. سيجعل اسمها لحنًا بدويًّا عنيفًا رقيقًا بعيد القرار متجاوب الإيقاع، ينبسط في جوّ الشعر العربي فيلين القلوب القاسية، ويذيب الكباد المتحجرة، ويحيى بالشوق من أهلكتهُ الصبابة وأحرقهُ الوجد وذرّاه (?) الهيام، وتلتفّ حولهُ عشرون عامًا مضت عليهِ من يوم وُلد كأنها أغلالٌ وسلاسل، فهو يجاهدُ أن يفضَّها عنهُ ليحرر لميّ كل حياتهِ وكل همهِ وكل أمانيهِ، فإذا فعل فقد رجَّعت البادية اسمه واسمها، وثارت ميٌّ إلى الصوت تستشرف، لترى هذا القلب العاشق المتيَّم الذي استكنَّ في صورة رجل بدويّ لا تمسك الطرف على محياهُ فتنة ساحرة أو جمال بارع، ويومئذٍ لا تأبى عليهِ مىٌّ إباءَها، بل تعرف ذلك الفتى الذي وهب لها من عينيه وقلبه عَلاقة الأبد.

هكذا كانت تقول له نفسُه، وهكذا جعلت خطرات الهوى تندفع بهِ في تأمُّله، وتمر الأيام بهِ وهو يلحُّ على نفسه إلحاح الحائر المحروم يتعجَّل ميقات ما يتشهَّى أن يكون ولكنه لا يجد من حيلتهِ إلا أن يفيض إلى ديار ميّ يطوف بها، يختلس النظرة إليها وهي على باب خبائها تستقبل الشمس بسُنَّة وجه تتلألأ عليها أشعة الشرق، فتكسوها غلالة من بهاءٍ يتلهَّبُ، حتى تضطرم في قلبهِ نار الوجد عليها. أو يلمحها وهي تنعطف بجيد غزال تريد خباءَها فتنعطف في إثرها دواعى هواه. فكانت هذه الخطراتُ مما تزيده شوقًا وغرامًا وصبابة، ثم يعود قد طوى النفس على ظمإ يائس، لم يروَ إلا ليستأنف شدّة والتياحًا (?). هكذا كان يتقلب غيلان في أيامه ولياليه. أما ميّ فكانت لا تحس شيئًا، ولا تجد لغيلان في نفسها صدًى أو ذكرًا. إنهُ شيءٌ كان ثم مضى، لم تلتفت إليه الفتاة التفاتة الحريص المدّكر.

ويحوم "غيلان" يومًا حول ديار "مي" بأسافل "الدهنا"، وإذا هي تغسل ثيابًا لها ولأنها في بيتٍ رثٍّ من الشعر، فيهِ خروق يرى الناظر منها ما وراءَها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015