عليها، ويتسلى بها في خلوتِه فرحًا أن يزورها من عامهِ في ديار أهلها كما زارها من قبل. فيرجع إلى ديار بني مِنْقَر، لعامه هذا، فيجد القوم قد ارتحلوا عن منازلهم "بالوحيد"، فيقف على ديارها يسائل نفسه عن ميّ وأهلها، وكذلك يعرف الفتى منذ اليوم ما معني الوقوف على الديار، وما لذة مساءلة الأطلال، يعرفها تجزبة في قلبه، لا معرفة من شعر من سبقهُ. فإذا عاد إلى دياره -مؤملًا أن يعود إلى "ميّ"، فرحًا بما عرف من لذة الوقوف على أطلالها- قال:

"هل تعرفُ المنزلَ "بالوحيدِ" ... قَفْرًا محاهُ أبدُ الأبيدِ؟ "

"والدهرُ يُبلى جدَّة الجديدِ! ! ... . . . ."

فإِذا أتمَّ تساؤله، وعرف لذة ما كان فيهِ من موقفه هناك، أجاب نفسه فقال:

"نعم! فأنتَ اليومَ كالمعمود ... من الهوى أو شَبَهُ المورودِ"

يجيب نفسهُ مختالًا: نعم، ثم يصرف القول كأنهُ يخاطب آخر غيره فيقول له متعجبًا نعم: لقد عرفت، فأنت في يومك هذا كالمريض الذي هَدَّه المرض فهو يُسنَد من جوانبه ليستوى، أو مثل المحموم الذي وردتهُ حُمَّى نافِض (?)، فتلك الحمى هي ما وجدتَ في روحك من قشعريرة الشوق والذكرى. ثم يصرخ يناديها:

"يا ميُّ! ذاتُ المبسمِ البَرُودِ ... بعد الرقادِ، والحشا المخضودِ"

"والمقلتينِ وبياضِ الجيدِ"

ولكنهُ يعود فيذكر حديثها إذ قالت له -وهي تصب الماء في قربتهِ- تلومه على ارتكاب السفر، وهو صغير حديث السن، فيقول: يا ميُّ!

"أهلكتِنا باللومِ والتفنيد"

أهلكتنا! عجيب هذا الفتى البدوى كيف يرقّ ويقسو، ولكنه يعود فيعتذر لنفسهِ عن ملامتها وتفنيدها. مسكين! إنهُ يخاف عليها حتى في خلوتهِ وشعره، فيقول: هذا عذرها، إنها

"رأت شُحوبى، ورأت تخديدى ... من مُجْحِفاتِ زمني مِريد"

طور بواسطة نورين ميديا © 2015