كل وجه. ويطول بحثه وفكره، وتتهيأ نفسهُ مستعدةً للتلفي أعظم أستعدادٍ، إنها نفس دقيقة حساسة لا تتبلّد.
وجاءَ القدر، فيخرج الفتى هو وأخوه "مسعود" وابن عمّه "أوفى"، في بِغاء إبل ضلت لهم، ويدخل على "مى" وهي تتغنّى (?). ذلك الصوت الذي يتحدر من سمعه إلى قلبه فيرسل فيهِ قشعريرة الإفاقة من إغماءِ طويل كان فيه هذا القلب. إن ألحانها قد أضاءَت فيه نبراسًا من النغم لن تزيده أعاصير الحياة إلَّا ائتلافًا وضياءً. ذلك الحديث بينها وبينهُ -وهي تصب له الماءَ في قربته- سيزيد على مرّ الأيام جدَّة في حقيقة روحهِ. أيُّ تعبير في الحياة كلها عن الفن والجمال هو أروع من هذا المنطق الرخيم، تفترُّ عنهُ ثناياها كما يفترُّ الفجر عن صباحهِ؟ أيّ فتنة في هذه الدنيا هي أنبل من حرّ هذا الوجه الأسيل المخروط المسنون الذي صقَلتهُ أسحارُ البادية وآصالها؟ أيُّ لذة في هذا الوجود هي أمتع من هذا الجِيدِ المتمرّد على جسد أهيف أملود يتحدَّى كل قوة في كل جمال؟ أيُّ متاع في هذا العالم هو أغنى من هذا الشَّعَر الجَثل الأثِيتِ المتموج على متنها، ينادى كل عاطفة لتضل في دياجيه الساحرة؟ أيُّ دنيا هي أعمق أسرارًا من هاتين العينين الصافيتين تسبح في صفائهما الروح إلى الغاية التي تُرَى ولا تُدرَك؟ ؟
وينصرف الفتى من لقائها، وفي سمعه نغماتها، وفي عينيه صورتها، وفي قلبه هواها، وفي روحه لذة خالدة تزداد على الأيام عِتْقًا ونفاذًا. فلئن أشقاه الحرمان بالرحيل، فلشدّ ما أسعده أن وجدها. فهو بين اللذة والألم يتردد، ولكنه في شَجوٍ يطربهُ كما يحزنة، ينال بأثريه في قلبه فرحةَ وجودها. لقد تزوّد منها نظرة وابتسامة وحديثًا. أنسته النساء وما فيهنَّ، وصرفته إلى طيف يُلم بهِ في مضجعهِ، ويعارضه في طريقه. يناديه إذا خَلا، فيأتيه جواب دعائه من أعماقه. . . صوتها، ألحانها، عيناها، كل شيء رآه منها أو سمعهُ يستجيب لهُ. ولكن القدر يعدُّه ليتلقى من "ميّ" ما هو أعظم من الفرح بحبها ووجدانها، فيتركه ينطوى