فالبطن جوفها الذي يغيب فيهِ كل شيء وكل حي إذا فارق الحياة الظاهرة، وظهرها جلدتها من الثرى والرمال، وذروتها وسنامها هذه الجبال، وإنها -أيضًا- لتشرب ماءَ الأمطار إذا نزلت عليها، وتأكل كل ما يلج في بطنها من شيء.
فهذه الأبيات في صفة الأرض، وهذا الخيال الذي توهمها، هو خيال الفتى المتأمل الذي بدأ يقف على مكامن الأسرار، لينفذ إليها، ويكشف عنها ببصيرة الشاعر الفنان المصور. وفيها سُخْرِية الضمير من الحياة التي لا معنى لها إلَّا الإجهاد الذي لا ينتهي، وفيها قوة "ابن البادية" الذي يستطيع أن يلم شعث الأَشياء المتفرقة ليستفيد من النظر إليها، ثم يلقيها ساخرًا مستخفّا لا يبالى. فما أمُّ أولادٍ ثكول. . . إلَّا مطية لها "ظهرٌ، وبطنٌ، وذروةٌ، وتشرب من برد الشراب وتأكل"، فمصيرها مصير كل مطية، هو الموت، هو إقبال الفناء بالهدم والتدمير، فمن وثق بالبقاءِ عليها وهي فانية فقد جهل وضلّ.
ثمَّ لا يزال الفتى، في أشواقه وتأملهِ، يقطع البيداء في الرحلة بين الديار والقبائل، في صحراء فاتنة ساحرة، ومَوْماةٍ مَخُوفة مَهُولة:
ومَهْمَه دَوِّيَّة مِثْكالِ ... تَقَمّسَت أعلامها في الآلِ
كأنما اعتَمَّت ذُرَى الجبال ... بالقزِّ والإِبْريسَمِ الهلهالِ
في كل لمّاعٍ بعيد الجالِ ... تسمعُ في تيهائه الأفلال
عن اليمينِ وعن الشمال ... فَنَّينِ من هماهم الأَغوالِ (?)
ويرى بقر الوحش، والثيران، والظباء، والنعام، والقطا، والجندب، والحرابى، والغراب، والذئب، فيرى ويسمع وينصت ويتأمل، وتستجيش نفسُهُ إليها صورًا من خياله القوي العنيف، فتترك الباديةُ وَسْمَها عليهِ، ذلك الوسم الذي لا يفارق من وَسَمَتْه بهِ. ولكنهُ على ذلك حائر لم يجد دنياه التي رآها أول ما أومض في قلبه ذلك الضوءُ المتدارك الذي لم يلبث أن خَفت. إنهُ يبحث عنها في