نظم الدكتور أحمد زكي أبي شادى
في أواسط القرن الرابع بدأ الشعر العربي ينزل درجات، وكان في سقوطه يتحسن بأثواب من جمال اللفظ يوارى بها سوآته ويستر عُرَرَه، وكان الشعراء يتعملون في استخراج أنواع من البديع والاستعارة والمجاز والإشارة واستوفوا بذلك غاية بعيدة في تركيب الألفاظ وترتيب الكلام. وبقى الشعر يسفل بعد ذلك حتى نجحت في القرن الماضي طائفة من الشعراء ردَّت إليهِ شبابه، وأعادت عليهِ جدته. إلَّا أن هذا الشعر لم يكن بالذي يرضى هذا الجيل الحاضر من الأدباء، فخرج عليه جماعة ممن تثقفوا بآداب الأعاجم من دول أوربا فبدأت هذه الجماعة تبتدع لنفسها طريقة في الشعر وذلك بإجادة المعاني وتحسينها وتحقيقها والتوسع في النظر إلى أوائلها وأواخرها وتابعها ومتبوعها وعلاقاتها بالنفس وآثارها في القلب إلى غير ذلك من الأغراض. ثم ترى بعضهم قد أهمل اللفظ واستجادته واختياره، ولم يلقوا بالًا إلى الصيغ العربية التي لا يفهم الكلام إلَّا بها، ولا ينعقد المعنى إلَّا عليها. وأغلب الظن أنهم يظنون أن هذه العبارة التي ينشئونها تؤدي المعنى الذي أرادوه، فيلقون بها دون روية أو تثبت، فإذا جاء القارئ ليفهم الكلام على عربيته لم يخرج بشيء ولا يجدى عليه إلَّا أن يتوهم مراد الشاعر توهمًا. غير أن الحقيقة التي لا ينكرها أحد أن كثيرًا من هؤلاء الشعراء قد انطوت أشعارهم على كثير من جليل المعاني ولكنهم أفسدوها بضعفهم في البيان وقلة عنايتهم بالأساليب العربية الجميلة التي يطابقون بها لين المعنى الذي أرادوه والصور التي تنشئها هذه الأساليب في ذهن القارئ البصير. ونحن لا نرى للشعر معنى إلّا بهذه المطابقة بين المعنى المراد والأسلوب المتخذ أداة للتعبير عنه، وإلَّا فإن المعاني الشعرية لا تزال قائمة في أنفس الشعراء من أول عهد الإنسانية إلى هذا اليوم، ولا يتقدم شاعر على شاعر إذا تساويا في المعاني، إلَّا بالبصيرة البيانية النافذة التي تقع بهِ على الألفاظ والأساليب التي تطابق المعاني القائمة في نفسهِ.