هذه كلمة موجزة أردنا أن نقدم بها لذكر ديوان صديقنا (الدكتور أحمد زكي أبي شادى) الذي سماه (الينبوع). ورأيي في شعر أبي شادى أنه جيد المعاني، فربما أراد هذا الشاعر معنى جليلًا ولكنهُ لا يأخذ نفسهُ بالمطابقة بين المعنى الذي أراده والأسلوب الذي يعرضه فيه، وهو يعلم ذلك في شعره فيحتج له ويدافع عنه. ولعلّ الرافعي أراد ذلك حين قال في كلمة سمعتها منهُ أن أبا شادى (مبتدع طريقة). وذلك أن أبا شادى قد صار في شعره على وحي الخاطر (كما يقولون) دون التنقيح والتصفية والاختيار وجعل هذا مذهبًا من المذاهب التي يسلكها الشعراء. وأنا لا أفتات على الرافعي في مراده من هذا الوصف. ولكن ذكرتهُ كما سمعته فإن أخطأت في تأويلي فذلك مِن قبَلى لا مِن قِبَله.
هذا وقد قرأت ديوان أبي شادى الجديد فوجدت فيه نفسه بنشاطها، وقلبه بشبابهِ، عقله بتوثبهِ، وعلمه بتنوعهِ، فهو أكثر شعرائنا استخراجًا للمعاني ولأغراض المعاني. وأنت إذا أخذت أحد دواوينه أعجبك من شأنه هذا التنوع في الأغراض التي يرمى إليها بشعره، وهو في هذا كثير المعاني الجيدة، وقد تقع له الألفاظ العالية والتراكيب القوية مما يدلنا على أنه لو توفَّر على الأخذ بأساليب لغته لأخرج لنا في الأدب العربي أدبًا باقيًا قويًّا ناضرًا جميل الظاهر والباطن.
ويجدر بنا هنا أن ننقل كلمة للجرجانى في الوساطة فهو يقول عن نظم الشعر ونقده "وملاك الأمر في هذا الباب خاصة، ترك التكلف، ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه، والعنف بهِ، ولست أعني بهذا كل طَبع، بل المهذب الذي قد صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة. وأُلْهِم الفصلُ بين الردئ والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح". فهذه الكلمة نسوقها إلى الشعراء، فإن الشعر إذا كان متكلفًا في استجادة اللفظ واختيار المعاني لم يكن شيئًا، وخير الشعر هو المرسل على سجيةٍ، الآتي مِن طَبْع، ولكن شرط الطبع والسجية هو هذا الذي قاله الجرجانى في كلمتهِ، ولو اجتمع هذا لشعرائنا لكان لنا من شعرهم فنٌّ تستروح له القلوب وترف عليه الأرواح.