من الأوس والخزرج كانوا يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فكانوا يصافونهم المودة بهذه الأسباب، ويستنصحونهم في أمورهم دون أن يشكوا فيهم أو يتوجسوا منهم خيفة. فأنزل الله في محكم كتابه ينهاهم عن فعل ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وهؤلاء "الذين قالوا آمنا" هم الذين نزلت فيهم الآية السابقة قبل هذه في سورة آل عمران: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

وهذه الآية وسبب نزولها يدل دلالة صريحة على أن أهل الإسلام الأول، كانوا لا يزالون يعدون الحلف بينهم وبين يهود حلفًا صادقًا لا غش فيه، وأن يهود كانت تظهر المودة وتخفي أشد العداوة وأشد الغيظ على هؤلاء الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم كانوا يتخافتون بهذه العداوة، وأنهم كانوا يخدعون هؤلاء المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، حتى إذا صدَّقهم بعض المؤمنين عادوا فأظهروا الكفر ليفتنوهم ويخدعوهم عن دينهم. فإذا صح هذا، وهو صحيح، ورسول الله بين أظهرهم، فهو أحق بالصحة في سنة 35 من الهجرة، لا نكبر أهل الصدر الأول من الإسلام عن أن يقعوا في مثله وفي أشد منه.

ويستطيع الدكتور طه، ويستطيع كل من أطاق القراءة، أن يقرأ كتب السير والمغازى منذ هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، إلى يوم دعاه ربه إلى الرفيق الأعلى، فسيجد أنه لا تكاد تنتهي وقعة بدر الكبرى بالنصر الأعظم لجند الله حتى يسلم رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول وجماعته من المنافقين، وكانوا أعوان يهود، ومن يومئذ ينفجر النفاق ويستشرى خطره، حتى تنزل فيه الآيات الكثيرة، وحتى يطلع الله رسوله على خبايا نفوسهم وعلى أعيانهم. ومن يومئذ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015